خورشيد دلي

منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا إثر فوزه الكبير في انتخابات عام 2002 لم يتوقف الجدل الجاري بشأن مصطلح العثمانية الجديدة،داخل تركيا وخارجها،وذلك تعبيراً عن السياسة التي يتبعها الحزب. بعيداً عن جدل الإيديولوجية، فإن السؤال الذي يُطرح هنا ما هو المقصود بالعثمانية الجديدة ؟ هل هي عودة إلى سياسة الدولة العثمانية بكل ما تحمل هذه السياسة من مفاهيم استعمارية وإمبريالية تحت وهج التوسع والسيطرة والاستبداد؟ أم أنها مخرج لأزمة تركيا الكمالية بعد أن أخفقت الأخيرة في تأطير الهوية الاجتماعية الحضارية، وأصبحت مع المتغيرات عاجزة عن مواكبة المصالح ومواجهة التحديات؟ أم الأثنان معا ؟ بداية، ينبغي القول ان ما أثار الجدل عربيا بشأن العثمانية الجديدة هو جملة التصريحات التركية، ولاسيما التصريحات النارية لرئيس الوزراء رجب طيب اردوغان والذي قال مرارا انه يفتخر بأنه حفيد السلاطين العثمانيين، ويقارن بين مدن تركية تاريخية وأخرى عربية، ويربط بين مصير الاثنتين معا، فضلا عن تصريحات وزير خارجيته أحمد داود أوغلو ولاسيما حديثه قبل فترة لصحيفة واشنطن بوست عندما تحدث عن إقامة كومنولث عثماني على غرار الكومنولث البريطاني. مثل هذه التصريحات تدفع المرء إلى التدقيق وطرح أسئلة لطالما أن الجغرافية التي تتحرك فيها السياسة التركية الجديدة، هي نفسها التي كانت تشكل الحدود التاريخية للدولة العثمانية. والحديث عن البعد التاريخي هنا يأخذ طابع العودة إلى مكونات السياسة، التي تعتمد في الحالة التركية على مجموعة من الركائز، لعل أهمها:

- الركيزة الجغرافية، إذ من يتابع بوصلة السياسة التركية في عهد العدالة والتنمية لا بد أن يرى أن هذه السياسة ركزت تركيزاً كبيراً على تطوير العلاقة مع سورية والعراق ودول الخليج العربي، إضافة إلى إيران، بعد أن تجاهلت الكمالية ذلك طويلاً لصالح ( أوربة) تركيا.

- الهوية الحضارية الإسلامية، مع أن حزب العدالة والتنمية يحرص في الداخل التركي على الابتعاد عن الهوية الإسلامية والقول على إنه ملتزم بالنهج العلماني الذي وضعه أتاتورك، إلا أنه في خطابه حيال العالمين العربي والإسلامي يحرص على البعد الإسلامي والتنسيق مع الأحزاب والحركات الإسلامية في العالم العربي خاصة في الدول التي شهدت ثورات.

- البعد القومي مع أن حزب العدالة والتنمية يحرص أن يكون شفافاً في هذه المسألة، سواء في الداخل أو الخارج، فثمة حرص قويً على البعد القومي الثقافي في سياسة تركيا العدالة، وقد تجلى ذلك من خلال الاهتمام الكبير بالدول الآسيوية الناطقة بالتركية فضلاً عن الموقف الاحتجاجي الذي اتخذته خلال أعمال العنف التي وقعت بين الأقلية الإيغورية والسلطات الصينية في إقليم تشينجيانج (تركستان الشرقية) قبل فترة.

في الواقع، إذا كانت العوامل الثلاثة أعلاه تشكل حوامل العثمانية الجديدة، فان الجدل بشأنها يثير مفارقة سياسية عربية، فهي في مسارها السياسي والاجتماعي تقدم للعديد من الدول العربية والإسلامية أجوبة عن أسئلة مطروحة، أسئلة تتعلق بالحكم ونموذجه، عن العلاقة بين الدين والدولة، بين العلمانية والإسلام، بين الجيش والحكومة المدنية، بين المعارضة والسلطة والعكس، أسئلة عن الآليات السلمية والقانونية لإحداث التغيير المنشود، عن الإصلاح وطرق تحقيقه،عن كيفية تحويل الخطوات التكتيكية إلى استراتيجية دولة بسياساتها وخياراتها.. فهذه الأسئلة وغيرها تشكل أسئلة السياسة والحداثة والمعاصرة في العالم العربي بعد أن تأخر كثيراً في إنجاز الدولة بمفاهيمها المعاصرة،والمفارقة هنا عربيا هي ان الكثير من القوى السياسية في العالم العربي هي التي تطلب تدخلا تركيا ndash; عثمانيا بعد نحو قرن من مغادرة العثمانيين المنطقة العربية بعد انهيار دولتهم. في مقابل رؤية هذه القوى والتي غالبا إسلامية ثمة رؤية مغايرة، والمفارقة هنا انها رؤية مزدوجة أيضا، فالعديد من القوى القومية العربية ترى ان عودة العثمانيين الحالية تأتي من منطلق تعاظم الدور الإقليمي لتركيا واعتمادها القوة الناعمة والتطلع إلى السيطرة انطلاقا من امتلاكها لفائض القوة التي يريد الغرب استثمارها لتطويع العرب، على المقلب الأخر ثمة في الغرب من يخشى من السياسة التركية الجديدة كخطوة للانفكاك عن منظومته السياسية والتوجه شرقاً بعد أن سعت تركيا الكمالية إلى الارتباط بالغرب كخيار سياسي وحضاري، وفي العمق يرى أن التوجه التركي الجديد يحمل معه ملامح أيديولوجية دينية، تثير المخاوف عن تحول في الدور التركي المنشود في المنظومة الغربية. العثمانية الجديدة قد تبدو في نظر القوى الإسلامية العربية ولاسيما الاخوان المسلمين حداثة ومعاصرة بما أنها تقدم أجوبة عن معضلة الحكم الدولة في العالم العربي فيما هي بنظر القوى القومية عودة استعمارية غير بعيدة عن موافقة واشنطن التي أنكفات على أزماتها لتقوم بعض الدول الإقليمية بالإنابة عنها في رسم السياسات وتنفيذها.