يعتبر الفارابي، بحق، من أقوى فلاسفة العرب في ميدان المنطق، ويحتسب أول من قارع مفهوم البرهان ليس كمفهوم عام أو كمنهج أستدلالي أستنتاجي، إنما كخطاب دقيق في العقل الكوني. فالخطاب البرهاني، لديه، ينزع الغبن عن الفكر ويعيد إليه وحدته كمنظومة تساوقية لاتسمح بأي أنفصام أو تفكك في مقوماته، وكأن ثمت علاقة جدلية حميمية ما بين الثالوث الفكر، البرهان، المنطق..

ويؤكد الفارابي في مؤلفه إحصاء العلوم ص 67 إن صناعة المنطق تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل. ويردف في مجال آخر في مؤلفه كتاب الألفاظ ص 99 إن المقصود الأعظم من صناعة المنطق هو الوقوف على البراهين. تلك البراهين التي تفيد العلم اليقين لأنها براهين من مقدمات صادقة ضرورية كلية أوائل تيقن بها وحصلت معلومة العقل بالطبع..

ويضرب مثلاُ على ذلك ndash; مثل علمنا إن الكل أعظم من جزئه وأن المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية، وأشباه هذه المقدمات التي تحتسب من البديهيات في صناعة العلوم. وهكذا فإن الفارابي يؤكد بالمطلق إن العقل البشري يكفي نفسه بنفسه، ولايفتقر إلى أي منبع خارجي ليقيس عليه شؤونه، ( فالمقدمات الأوائل ) هي التي تغنيه عن أي شيء خارجي. وطالما أن الأمور تكال بهذا المستوى فإن المعرفة اليقينية هي المعرفة بالأسباب، والمبدا العام الذي يحكم هذه العمليات الأستدلالية الأستنتاجية البرهانية ndash; حسب الجابري - هو مبدا السببية في أرتباطه بمبدأ الهوية.

هذه المقدمة ضرورية للغاية لنصل إلى الفكرة المتوخاة المنشودة وهي أن الفارابي، أعتماداُ على هكذا حيثيات، ينطلق من الموجودات الحادثة، التي هي ممكنات الوجود، إلى مفهوم واجب الوجود، لأن الوجود لايقبل القسمة البتة إلا على ما هو ( واجب وممكن ).
كما أن واجب الوجود كسبب أول ( يلزم بالضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الأنسان وأختياره، على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحس، وبعضه معلوم بالبرهان.

أما كيفية حدوث ذلك، وهي نقطة بحثنا هذا، ( إن وجود ما يوجد عنه إنما هو على فيض وجوده لوجود شيء آخر، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده ).
ويستطرد الفارابي إن السبب الأول الذي هو بالضرورة عقل مفارق فإن ما يفيض عنه هو كذلك عقل واحد بسيط مثله، وهذا العقل الأول يعقل ذاته فتفيض منه كرة سماوية جرماُ ونفساُ، ويعقل مبدأه فيفيض عنه عقل ثان، وهكذا يستمر الفيض إلى العقل الثالث، ثم الرابع، ثم إلى العقل العاشر الذي تصدر عنه ( الصورة والهيولى المشتركة مابين جميع الأجسام ). وهذه الهيولى التي تتحرك بحركة الأفلاك تتشكل منها العناصر الأربعة ( الماء، الهواء، النار، التراب ) التي منها تتآلف الأجسام الأرضية.

هكذا يربط الفارابي في منظومته الفكرية ndash; حسب الجابري ndash; ما بين المنطق والأنطولوجيا، بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، ليؤكد على وحدة الكون، ثم على وحدة الفكر.. لكن هل أفلح الفارابي في تصور ذلك، وفي أدراك حقيقة وحدة الكون ثم وحدة الفكر من خلال فرضية الفيض، هذا ما سوف نلتمسه من المآخذ التالية.

المأخذ الأول : يؤكد الفارابي من الزاوية الفلسفية، إن السبب الأول ( العقل ) البسيط لاينتج عنه إلا سبب ثان ( عقل ) بسيط مثله. وبالضرورة لايمكن ولا في حلقة من حلقات الفيض إلا أحترام هذه القاعدة وإلا لكانت مغلوطة في منبعها، بمعنى أن العقل البسيط الثاني لاينتج عنه إلا العقل البسيط الثالث، وهكذا العقل البسيط الرابع، ثم الخامس، ثم السادس، حتى العاشر. لكن نحن نعلم أن الفارابي يفاجئنا، بصورة ضبابية غامضة، إن المركب ndash; السبب، العقل ndash; ينتج من البسيط في حلقة من تلك الحلقات، وهي على الأرجح الأخيرة. فكيف تم الأنتقال من البسيط إلى المركب في حيثية فرضية الفيض !! وكيف ولد المركب من البسيط !!

المأخذ الثاني : لقد فاض السبب الثاني عن السبب الأول وهكذا دواليك، فهل فاض في لحظة ما، في عندما، في حينما، في لما، في شرط ما، أي هل حدث الفيض كحدث، كشروط معينة، كوضع محدد، أم أن الفيض يتوسم بالديمومة طالما السبب السابق ndash; له وجود -، وبما أن الأسباب السابقة كلها متواجدة على الأرجح لضرورة وجود السبب الأول، فإن الفيض مازال مستمراُ، وما زال مستمراُ حتى الآن، وإلى الأبد، وإلا لكان فرضية الفيض ناقصة التبرير، ناقصة المنطق، ناقصة المعقولية. ومن هنا نرتاب في أن يتفق الفارابي معنا في ديمومة الفيض إلى الأبد!

المأخذ الثالث : ثم، في الحقيقة، ماذا يعني كلمة فاض، فهل يعني ndash; ولد، نجم، نتج، زاد، طفح، فار ndash; أم إن المعنى ينحصر تماماٌ في محتوى الفيض، وهو الأرجح، مع العلم إن الإشكالية لاتزال قائمة مهما كان معنى ndash; فاض -. ففاض يتضمن أمرين، ولادة الجديد ( ما قد فاض عن الأصل )، وبقاء الأصل كأنه لم يفض، وبما أن الأصل بقي كما هو فلا مناص من أن يتمتع الجديد بوجود مستقل، وأستقلاله هنا، أما أن يتغاير مع طبيعة الأصل وهذا ما يرفضه الفارابي نفسه، وأما أن يوازيها وهذا ما يتناقض مع ولادة ( الجرم والهيئة )..

المأخذ الرابع : ثم كيف يمكن أن نفهم نظرية الفيض، فهل فاض بالضرورة، أم بالغاية، أم بالطبيعة، أم بالوسيلة، أم بالإرادة، أم بالرغبة، أم بماذا !! فمهما يكن الجواب، فلا يعقل أن ينجم الفيض عفوياُ لأن هذا يتناقض مع طبيعة السبب الأول، وإذا ما أنتفت هذه الأمكانية، فإن الأمكانيات الأخرى لاتقل أشكالية عن الأولى، وهنا قد ينبري الفارابي ويؤكد أن الفيض يحدث بالطبيعة، وهذا بالضبط ما نود أن ندركه، لأن في هذه الحال سيكون السبب الثاني مثل السبب الأول، ويفيض عنه سبب ثالث ( هو الأول والثاني ) وهكذا دواليك، والفارابي نفسه سيعترض على ذلك، لأننا سنكون عندها إزاء تعددية السبب الأول..

المأخذ الخامس : إذا بانت توافقية ما في العلاقة ما بين السببين الأول والثاني، فإن المشكلة تدق بصورة أعظم فيما بين الأسباب الأخرى لأنها ستكون بالضرورة لاحقة لها، فلا يعقل أن تحدث الفيوض كلها دفعة واحدة بشكل تساوقي، وإذا ما أعتمدنا على منطوق السابق واللاحق في هذ التكيف لبرزت أمامنا تداعيات مستقلة وخطيرة نلخصها في المستويات الثلاثة التالية. المستوى الأول : ما هو مبرر هذا الفيض الاخر، ما قيمته على الصعيد الفكري الفلسفي. المستوى الثاني : لماذا هذا الفائض تحديداُ من حيث النوعية. المستوى الثالث : هل ثمت ضرورة له، فإذا ما أنتفت أنتفى الأصل، وإذا ما وجدت، أفلا تخلق هذه أشكالية للسبب الأول..

المأخذ السادس : ثم إذا كان الفيض من السبب الأول لايؤثر البتة على وجوده، وهذا هو الأرجح، فإن السبب الثاني لامناص من أن يتمظهر حول وجوده، الذي لولاه ما كان للفيض من معنى، وإذا كان، فلامندوحة إلا إن نتصور بعدين، البعد الأول : إذا وجد نوع من الأستقلال والأنفصال فما هو حقيقة هذا الوجه. والبعد الثاني : إذا ماوجد نوع من التبعية فينبغي تحديد وجهها أيضاُ، وبالدقة..

المأخذ السابع : لنؤوب إلى معنى كلمة ndash; فاض ndash; في المأخذ الثالث، ولنخصص أكثر، فإذا أدركنا محتوى الفيض كفعل فإن ذلك لايليق أبداُ بمستوى السبب الأول بل يتعارض ويتناقض مع كينونته وكنهه، وإذا أدركناه كميكانيزم لتصور عقلي بحت فأننا لن نجادل في صيرورته لأنه، عندئذ، لن يتعدى حد الأعتقاد، وحدود التصور نفسه..

المأخذ الثامن : يؤكد الفارابي إن العقل البشري يكفي نفسه بنفسه، وإنه يعتمد على المسلمات ( الأكسيوم ) الأولية مثل إن الكل أعظم بالضرورة من جزئه، فهل أستخدم تلك البديهيات للوصول إلى أستنباط هكذا مصيري، هكذا أستثنائي وفريد، أم أنه، في الحقيقة، ألغى تلك المسلمات، بل أوشك على القول أنه ألغى العقل نفسه..

المأخذ التاسع : ثم الأنكى من ذلك والأصعب، ألم يكرس الفارابي حياته الفلسفية لخطابه البرهاني حتى أنه لقب بأرسطو العرب وبالمعلم الثاني بعده، فكيف ضحى بهذا الأرث الرائع المجيد، هذا الأرث التاريخي، ونحاه جانباُ بالمطلق وكأنه لم يكن وما كان..

المأخذ العاشر : والأنكى والأصعب على الأطلاق، ألم يكن مستحسناُ أن يتدرج الفارابي في مفهوم نظرية الفيض من الوجود المباشر، القائم بالفعل، السبب العاشر، إلى الوجود التصوري، إلى وجود السبب الأول، أي مما يمثل الفيض العاشر إلى مما يمثل الفيض الأول. وكيف تسنى له أن يقفز مباشرة وبدون مقدمات إلى السبب الأول، ثم التقهقر نحو الخلف، إزاء هكذا تصور لامندوحة من سرد ممكنين. الممكن الأول، هو أنه كان يدرك مسبقاُ بتلك الخطوات، فلماذا لم يعتمدها في التأصيل الفلسفي ويتدرج من عقلنة الخطوة الأولى إلى الخطوة الثانية، الممكن الثاني، هو أنه لم يكن على دراية بالأمر وأكتشف، بعد أن أقر مبدأ الفيض، وجود مثل هذه الأمكانية، فكيف تسنت له الدراية الأكيدة من أنها عشرة تماماُ، ثم ماهو المعيار الحقيقي في هكذا أكتشاف، وفي توضيح هكذا تصور..

المأخذ الحادي عشر : ثم، في الفعل، هل كان الفيض من الداخل، أم من الخارج، أي من الهيكل فقط، بمفاد، والمسألة دقيقة، هل السبب الأول فاض ويفيض ككل، كوحدة، كوجود واحد، كطبع، لأنه هو هو، عندئذ لسنا إزاء مفهوم الفيض، لنسميها ما نشاء إلا الفيض، مع العلم إن هذا أقرب إلى تصور الفارابي من بعض الزوايا، أم إن السبب الأول فاض ويفيض لأن المسألة تخارجية بالنسبة له، وهذا أقرب إلى تصور الفارابي من بعض الزوايا المخالفة، ويصطدم بأسئلة لانهاية لها، ولايمكن، بالمطلق الجمع ما بين الأثنين على خلفية ndash; فاض ويفيض -..

المأخذ الثاني عشر : مهما كان مفهوم التصورالعقلي خالصاُ، ومهما جاهدنا في الأبداع به في تصوره بأسلوب تجريدي محض صرف، ومهما أمهرنا في أستنطاق الكلمات والمعاني والتركيب فيما بينها، فلن يحالفنا الحظ مطلقاُ، كما لم يحالف الفارابي، في تحديد مسار ومنطوق فحوى ndash; فاض ويفيض -...


[email protected]