ما أن سقط صدام وحكمه الاستبدادي فى نيسان/ابريل 2003 حتى بدأ الحكام السوريون يفسحون المجال أمام السلفيين العرب لدخول العراق وتفجير أنفسهم فى الجوامع والأسواق والمدارس والمستشفيات وكل أماكن تجمع المواطنين وقتلهم بالجملة وبدون تمييز بين امرأة وطفل وشيخ ومريض، وتطاولوا حتى على المراقد المقدسة فى سامراء وغيرها. وبطبيعة الحال فان الحكومة العراقية كانت تستنكر هذه الأعمال الاجرامية وتوجه اللوم الى حكومة بشار الأسد التى كانت تتنصل منها وتنكر أي علاقة بها. وحيث أن بشار كان قد فتح الحدود السورية للبعثيين الهاربين من العراق فإن القائمة العراقية لم تحتج يوما على بشار وحكومته اوطالبتهم بمنع دخول السلفيين السفاحين الى العراق، بل بالعكس فقد قامت بانتقاد الحكومة متهمة اياها على عدم سعيها فى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية وبضمنها سورية.

قبل ثلاث سنوات (تحديدا فى يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2008) كنت قد كتبت فى ايلاف مقالة بعنوان quot;لتضرب لنا سوريا مثلاquot;. فى ذلك الوقت كانت سورية تهاجم الحكومة العراقية لتوقيعها اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية لسحب قواتها من العراق خلال ثلاث سنوات، أي قبل نهاية سنة 2011. كانت سورية تريد من الحكومة العراقية استخدام القوة لاخراج الأمريكيين من العراق مع علمها باستحالة ذلك. قامت الحكومة العراقية بتوجيه اللوم الى الحكومة السورية، فغضبت لذلك القائمة العراقية واتهمت الحكومة العراقية ndash; التى هى أصلا جزء منها ndash; بأنها تبتعد عن (الأخوة) العرب. وتوالت التصريحات والتهديدات والتحذيرات، ويعتقد البعض أن غضب العراقية نابع من أن نسبة كبيرة من قادتها كانوا أعضاء فى حزب البعث العراقي المقبور، وإن الحكام السوريين بعثيون (وإن إختلفوا) معهم فى بعض الأحايين، خاصة وانهم يحتضنون معظم البعثيين العراقيين الهاربين ويوفرون لهم المأوى والعدة للعودة لحكم العراق.

واليوم وقد قام الشعب السوري بانتفاضته ضد طغيان حكامه البعثيين الذين ارتكبوا خطأ فادحا بتقربهم الى ايران التى يصر حكامها بكل حماقة على صنع الأسلحة النووية والى حزب الله الذين تعاديهم اسرائيل وأمريكا والدول (المعتدلة) فى المنطقة، وانضم اليهم البعثيون العراقيون نكاية بايران التى شن عليها صدام حربا حمقاء دمرت العراق وتسببت فى سقوطه المهين. أما الحكومة العراقية فهي لا تجد فائدة فى معاداة ايران التى ترتبط مع العراق بروابط تأريخية واقتصادية لا يستهان بها، فامتنعت عن التصويت على تعليق عضوية سورية فى الجامعة العربية الذى أقرته الجامعة بعد ان كسب القرار أصوات الدول (المعتدلة) العربية بقيادة قطر ومباركة أمريكا وتركيا (التى قد ترشح لعضوية الجامعة العربية!) و اسرائيل. إن الامتناع عن التصويت لا يعنى أن الحكومة العراقية تؤيد بشار الأسد على استعماله القوة المفرطة بحق شعبه بل كل ما طالبت الحكومة العراقية به هو التريث فى اتخاذ هذا القرار مؤكدة على انها مع الشعب السوري فى كل ما يحفظ حقوقه وحريته. ولكن القائمة العراقية ثار ثائرها على الحكومة وشنت هجمات عنيفة عليها، وصلت الى حد أن وصف المدعو حيدر الملا أحد الناطقين باسمها بأن امتناعها عن التصويت (يدخل ضمن اللاشرف السياسي)!!! وهو تعبير جديد لا أظن أن أحدا قد سمع به من قبل.

ترى ماالذى حصل اليوم لتغير القائمة العراقية من موقفها من موالاة بشار الى معاداته وبهذه الشدة التى وصلت الى حد تسمية سياسة الحكومة العراقية بأنها سياسة (لا شرفية)؟ الملاحظ أنه كثيرا ما يفقد الناطقون باسم القائمة العراقية رشدهم فينطقون بأشياء تكشف عن حقدهم العميق اللاعقلاني الذى يدفعهم وقائدهم الدكتورعلاوي الى توجيه السباب والشتائم الرخيصة الى رئيس الوزراء، بسبب ضياع منصب رئاسة الوزراء منهم وكأن هذا المنصب غنيمة فاتتهم وليس مركزا خدميا لخدمة ابناء شعبهم، وهم لا يستطيعون صبرا الى الانتخابات التالية فلربما يحصلون على ما يريدون. همهم هو وضع العراقيل فى سبيل الحكومة التى يشاركون فيها ليبرهنوا للناس عن فشلها. أما معاناة الناس وتدهور الأوضاع الاقتصادية واختلال الأمن والتهديدات الداخلية والخارجية فلا تخطر لهم على بال، ولا يجدون الوقت للتفكير فيها. ونجد بعض قادتهم منهمكين فى رحلات مكوكية لدول شتى يستجدون دعمها وعونها على الحصول على الكرسي اللعين، والبعض الآخر يحرض محافظات معينة على المطالبة بإنشاء أقليم او أقاليم على غرار اقليم كردستان الذى يخطط بالأصل للانفصال عن العراق فى الوقت المناسب.

حذر النجيفي رئيس مجلس النواب اثناء وجوده فى لندن الحكومة العراقية من أن استمرارها الموهوم بغمط حقوق السنة قد يدفعهم الى طلب إنشاء اقليم خاص بهم، ثم يزور المحافظات ليشجعها على ذلك. وعندنا مثل فى العراق يقول لمن يتصرف مثل السيد النجيفي : يقول لصاحب البيت تهيأ ويقول للحرامي إسرق.

أما رفاقه فى القائمة العراقية فتراهم يحرضون الأمم المتحدة على بلدهم العراق دفاعا عن عصبة ايرانية (معسكر أشرف)تتخذ من العراق منطلقا لها ضد بلدهم ايران، وهو أمر لا ترتضيه اي دولة تريد العيش بسلام مع جيرانها. ويتهمون حكومتهم بقتل 34 شخصا من تلك العصبة ويهولون الأمر وكأن الرقم بالألوف، ويغضون النظر عن مناصرة تلك العصبة لصدام عندما ساعدوه على إخماد الوثبة الشعبانية فى العراق التى خسر فيها عرب الجنوب عشرات الألوف من خيرة أبنائهم عند تراجع من بقي من جند صدام من الكويت، كما سبق لهم مناصرته فى قتل عشرات الألوف من الأكراد فى الشمال ومنهم بضعة آلاف قتلهم صدام بالغازات السامة، وكما يعرف الجميع أن تلك المجازر لم تستفز الجامعة العربية فتتدخل لحماية شعب العراق، ولكن عندما قتل 3500 سوري على يد الحكومة البعثية استيقظت الجامعة واتخذت قرارا باستبعاد سورية من الجامعة، ومن يدرى فقد تقوم طائرات دولة قطر العظمى بقصف المدن السورية كما فعلت فى ليبيا. كل ذلك يعتمد على ما تخططه أمريكا واسرائيل للمنطقة.

إن البعث فى سورية، كما كان صنوه فى العراق، يحكم البلاد بقبضة من حديد ولا تهمه خسائر أرواح وممتلكات الشعب السوري المغلوب على أمره، وإن لبشار أسوة سيئة فى أبيه حافظ الأسد الذى أزهق أرواح عشرين ألفا من مواطنيه فى حماة وحدها فى عام 1982. هذه هى حقيقة البعثيين الذين يتشدقون كذبا وبهتانا بالقومية العربية ويرفعون شعارهم الكاذب (وحدة وحرية واشتراكية)، ولكن الخوف كل الخوف من استيلاء السلفيين على الحكم فى سوريا وهم أسوأ من البعثيين بمراحل كثيرة، وما يحدث الآن فى مصر وليبيا والى حد ما فى تونس يعزز هذا الرأي.

ماالذى تريده القائمة العراقية من الحكومة أن تفعل وهى لا تكاد تجد الوقت الكافى لإعادة بناء العراق الذى دمره البعثيون والأمريكان؟ العراق الذى يحاصره الأعداء والطامعون من كل جوانبه بل وحتى من داخله يحتاج الى سنين طويلة لكي يستطيع الوقوف على رجليه ويستطيع الدفاع عن نفسه ضد من يتربص به. الشعب العراقي الذى عانى الكثير تحت الحكم العثماني ومن الحكم الملكي الذى تبعه، وما أن قام جيشه بثورة تموز 1958 وظهرت بوادر الخير حتى انقض عليها البعثيون والقوميون وقتلوا قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم الذى أحبه كل العراقيين على اختلاف أديانهم وقومياتهم وطوائفهم، وجثموا على صدور العراقيين اربعين عاما أدخلونا فى خلالها فى معارك مهلكة مدمرة جعلتنا نترحم على حكم العثمانيين.

إعيد ما كررته فى مقالاتى السابقة من أن القائمة العراقية والكتلة الصدرية قد سببتا للعراق خسائر فادحة وأضرارا لا يمكن تعويضها، فإن لم توقفا معاولهما عن هدم البلد فستنشب فيه حرب طائفية لا تبقى ولا تذر ويقسم العراق الى إمارات دينية متناحرة، ويختفى العراق من الوجود.

هل ستستيقظ ضمائر زعماء الكتل السياسية والدينية قبل فوات الأوان ويتخلوا عن أنانيتهم وطمعهم وجشعهم ويكفوا عن النزاع فيما بينهم ويتعاونوا لانقاذ هذا الشعب المسكين الذى عانى مثلما لم يعانيه شعب غيره من قبل. ألا يستحق اليتامى والأرامل والمشردون والمعوقون بعض الرحمة والشفقة؟ كيف ينامون لياليهم وجل أبناء شعبهم لا يجدون ما يسد رمقهم ويستر عوراتهم ويقيهم قيظ الصيف وزمهرير الشتاء؟ ألم يتعظوا بعد بمصاير الطغاة الذين عاصروهم والذين سبقوهم؟ أم يظنون أنهم فى مأمن من تلك المصاير؟

عاطف العزي