التغيير السياسي ضرورة حيوية بالنسبة للمجتمعات الإنسانية كافة وفي كل العصور، وليس حكرا على مجتمع أو شعب دون آخر، لأن التغيير هو الذي يضمن للمجتمعات الإنسانية تجددها، ويوفر لها الحيوية الكفيلة بجعلها قادرة على مواجهة متطلبات التطور والتقدم وعوامل الضعف والشيخوخة في مسيرتها على مختلف المستويات، وفي مختلف الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد تضطلع الدولة بهذه المهمة من تلقاء نفسها وتماشيا مع طبيعة الأشياء من حيث التزاماتها ومسؤولياتها تجاه المجتمع الذي تضطلع فيه بالمسؤولية الأولى، فتجدد بذلك شرعيتها، وتضمن لنفسها التطور والتقدم، ولنظامها السياسي القدرة على مواكبة التطور ومراكمة المكتسبات، وتحصين كل تقدم تحرزه في مسيرتها، غير أن الدولة قد تتخلف عن ذلك، لهذا السبب أو ذاك، فتتصدى لإنجاز مهمة التغيير قوى أخرى بديلة يفرزها المجتمع من داخله وضمن صيرورة نموه وتطوره الذاتي لأن حيوية هذه العملية بالنسبة للمجتمع لا تترك أمامه خيارات التأجيل إلى ما لا نهاية، ولأن تطلعات القوى الجديدة تفرض عليها المبادرة للفعل خارج نطاق تصور قوى المحافظة على الوضع.
وبما أن الدولة القائمة ونظامها السياسي الذي يجسد مصالح القوى السائدة في المجتمع ويعتبر نفسه الممثل الشرعي والحقيقي لمجموع مصالح المجتمع لن يتوانى في عرقلة كل مسعى يناهض توجهاته المحافظة في الأغلب الأعم، وسيستميت، بالتالي، في الدفاع عن مصالحه في وجه كل القوى المناوئة، وخاصة الصاعدة منها، مستخدما في ذلك كل الوسائل التي يملكها بما في ذلك العنف المادي والرمزي بمختلف أشكالهما فإن ذلك قد يؤدي إلى مقابلة العنف بالعنف إلى أن يتم حسم الصراع على الأرض لفائدة قوى المحافظة على الوضع القائم أو لفائدة قوى التغيير وتجديد النظام السياسي على قاعدة مصالح مادية ومعنوية تمثلها تلك القوى وتدافع عنها.
غير أن التاريخ الإنساني قد عرف أمثلة عديدة حيث تكون قوى المعارضة والتغيير عاجزة عن حسم المعركة السياسية والعسكرية لصالحها اعتمادا على إمكانياتها المادية والمعنوية حصرا ومن أجل قلب معادلات موازين القوى لفائدتها فإنها قد تلجأ إلى بعض القوى الخارجية لمساعدتها على إنجاز المهمة التي تؤمن براهنيتها وتعتقد أنه بإمكانها الاضطلاع بها نيابة عنها. وغالبا ما تستعين بترسانة متنوعة من التبريرات في معرض الدفاع عن موقفها وتسويقه على أوسع نطاق ممكن. وبما أن منطق المصالح ليس حكرا على دولة دون أخرى وإنما هو مشترك بين جميع دول العالم، فهذا يعني بالضرورة أن تلك القوى أو الدول التي يتم اللجوء إليها للمساعدة على إنجاز التغيير تتحرك ضمن مقتضيات مصالحها السياسية والإستراتيجية الخاصة، في حال اللجوء إليها طلبا للمساعدة أو عندما تعرض من تلقاء نفسها خدماتها على الدول التي تعتبر أنها بحاجة إلى العون والمساعدة.
إن إدراك رهانات ومصالح مختلف القوى الإقليمية والدولية هو الشرط الأساسي لمقاربة سياسية واستراتيجية تروم خدمة المصالح الخاصة للدولة المعنية والدفاع عن حقوقها بطريقة فعالة في مختلف المحافل الإقليمية والدولية بما في ذلك داخل هيئة الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن الدولي الذي يجسد أول ما يجسد مصالح الدول العظمى التي لديها تصوراتها الخاصة ونظرتها إلى مصالحها على المستويات الإقليمية والدولية وكيفية تجسيدها على أرض الواقع وحمايتها بكل الوسائل الممكنة. وهذا يعني أن رهن مصالح الدولة بمصالح خارجية حتى ولو كانت مؤسسة الأمم المتحدة ومجلس أمنها يعني التفريط في ما هو أساسي من المصالح الوطنية والقومية وتسخير مقدرات الوطن الاقتصادية والسياسية لخدمة مصالح الآخرين واستراتيجياتهم الضمنية أو المعلنة القديمة أو المحدثة سواء كان ذلك عن وعي أو دونه..
إن القول بان الغاية تبرر الوسيلة لاعتماد أساليب غير أخلاقية أو غير جائزة على المستوى المبدئي قول مردود على أصحابه لأنه يحول العمل السياسي إلى فوضى على جميع المستويات ولعل هذا من أهم المؤاخذات على كل فلسفة ذرائعية تلغي من دائرة اهتمامها كل مبدأ فكري موجه بدعوى أن العبرة بالنتائج تارة وبذريعة أن السياسة الحديثة لا تستمد هذه الصفة إلا من حيث كونها مستقلة تمام الاستقلال عن الأخلاق وذلك بفضل الثورة الكبرى والقطيعة الجوهرية التي أحدثها نيقولا ماكيافيلي وتوماس هوبز في الفكر السياسي الحديث وبالتالي فإن العودة إلى ما قبل هذه الثورة يشكل نكوصا حقيقيا عن المكتسبات التي تمت مراكمتها خلال حوالي أربعة قرون من الزمن.
لقد قدمت التجربة العراقية الدليل القاطع على أن الاستقواء بالأجنبي له تكلفته الباهظة على المستويات المادية والمعنوية وله أثمانه في الموارد البشرية تقصم ظهر المجتمعات القوية فأحرى المجتمعات التي نخرت الديكتاتورية بنيانها. وان العراق الذي قدم أكثر من مليون ضحية في الأرواح بفعل الغزو الأمريكي البريطاني لم يخرج بعد من دائرة التخريب والتدمير إلى دائرة البناء الديمقراطي التي تم تقديم الوعود بسخاء بصددها عشية التحضير للغزو العسكري.
كما أن التجربة الليبية وتدخل الحلف الأطلسي للإطاحة بنظام معمر القذافي تعطي الدليل هي كذلك على طبيعة المصالح الإستراتيجية التي حركت دول الحلف للضغط على جامعة الدول العربية لإعطاء الضوء الأخضر للتدخل العسكري بدعوى تأمين حماية المدنيين من خلال فرض حظر جوي أجازه قرار مجلس الأمن الدولي والذي تحول ضمن عملية تنفيذه إلى العمل على الإطاحة بالنظام الليبي، وإقامة نظام آخر مكانه، وهو ما لم يكن منصوصا عليه في قرار مجلس الأمن رقم 1973 وإن كان واضحا من مسعى دول حلف شمال الأطلسي والخطط العسكرية التي تم اعتمادها بعد تسلمه المهمة من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي باشرت قصف ليبيا منذ أكثر من ستة أشهر واستطاعت الإطاحة بنظام القذافي.
وخلاصة القول إن الوسيلة ليست بريئة كل البراءة في تعاطيها مع الهدف المحدد لها سلفا، لذلك فإن مضاعفات التغيير السياسي السلمي الديمقراطي تختلف جذريا عن مضاعفات وتداعيات التغيير بالوسائل العسكرية الداخلية والخارجية على حد سواء، وإن العلاقة بين الهدف والوسيلة علاقة حيوية وجدلية تقتضي التفكير فيها مليا قبل رفع أي شعار من شاكلة الغاية تبرر الوسيلة، أيا كانت الدواعي إلى رفعه على المستويات التكتيكية أو الإستراتيجية.
التعليقات