وأخيرا ً سيصبح العراق أحد الدول العظمى، ليس في الصناعة وتكنولوجيا والفضاء، ولا في مجال إنتاج الطاقة، العسكرية منها والمدنية، ولاحتى في مجال المواصلات والإتصالات، بل في إحتياطي النفط. فحسب تقارير الأمم المتحدة يملك العراق إحتياطيا ً من النفط يتجاوز 143 بليون برميل وإحتياطيا ً محتملا ً ربما يصل إلى 200 بليون برميل من النفط. ليس هذا مهما ً، بل المهم هو أن العراق سيصبح أحد الدول العظمى في مجال إنتاج النفط مما يتيح له فرصة التأثير بشكل أكبر في الإقتصاد العالمي وربما بالقرار السياسي الدولي. السؤال المهم في ذلك هو: هل سيبقى النفط، كما كان ومازال، نقمة على العراقيين وليس نعمة؟ أي هل ستؤدي تلك الزيادة في الإنتاج النفطي إلى زيادة في معاناة العراقيين والآمهم؟
لقد كان ومازال العراقيون تمر عليهم الأعياد وفيهم الفقير الذي لايستطيع أن يوفر كسوة لأولاده، فهم يشعرون كما المتنبي الذي خاب ظنه بكافور الأخشيدي بعد أن مل مواعيده بالغنى فهجاه قائلا ً...عيد بأية حال عدت ياعيد...بما مضى أم أمر فيه تجديد...إلى قوله... أمسيت أروح مثر خازناً ويداً...أنا الغني وأموالي المواعيد. نعم، لم يأخذ العراقيون من ثروتهم إلا الوعود بالغنى، لا، بل تحول النفط إلى نقمة بعد أن تحول إلى سلاح توجه نحو دول الجوار، في مغامرات حمقاء، ومن ثم إلى صدور العراقيين أنفسهم فصار الأخ يقتل أخيه. فمن مورد ليس بالكبير تحول النفط إلى مصدر من مصادر الثروة في العراق بعد تأميمه في سبعينيات القرن الماضي لتبدأ رحلة جديدة من رحلات المغامرات الغير محسوبة العواقب للعراق، فصار العراقيون كأنديانا جونز والمغامرة الأخيرة بجميع أجزاءه، فما أن تنتهي مغامرة حتى تبدأ أخرى في مكان آخر. لقد كان الصراع على السلطة وتقسيم الثروة في أوجه في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حين بدأ حزب البعث بتصفية الشيوعيين ومن بعدهم الإسلاميين لينفرد وحده بالسلطة ويسجل هدفا ً من أروع الأهداف، ولكن، ليس في مرمى الخصم بل في مرمى الشعب العراقي الذي مازال يدفع ثمن هذا الهدف الثمين.
أن من سخرية القدر هي أن العراق سيصبح دولة عظمى ليس بكفاح شعبه بل بقدرة قادر، أي بثروة خبأها لنا القدر والقادر في باطن الأرض. ولكن، ليس كل من يملك النفط هو غني وليس كل من لايملكه فقير بالطبع. فهناك الكثير من بلدان العالم لاتملك ثروة طبيعية إلا إنها من الدول المتقدمة والرائدة في كل المجالات. فربما تحولت الثروة الطبيعية إلى عبء يحول دون تطور البلد وتقدمه بعد أن يشعر أبناء ذلك البلد بأن لديهم ثروة تكفيهم عقود كثيرة من الزمن وهم ليسوا بحاجة للعمل الجاد والمثابرة من أجل الحصول على مصادر أخرى للثروة. أن سر نجاح الكثير من الدول كامن ليس في ثرواتها الطبيعية بل في عقول أبنائها وجدهم ومثابرتهم في تطوير أنفسهم، وفي طبيعة الثقافة السائدة في ذلك البلد وعلاقتها فالعلم والمعرفة.
أكاد أجزم وبلا تردد بأن العراق سيبقى من الدول الفقيرة والغير مؤثرة على المستويين الأقليمي والعالمي حتى لو أمتلك ثروات العالم كلها وليس 143 ترليون برميل نفط فقط أذا بقى على هذه الحال. فتقدم البلدان وتطورها كامن في استراتيجيات البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويقف خلف تلك الاستراتيجيات مشروع سياسي اقتصادي اجتماعي من وراءه مشروع ثقافي. أما ماينتج هذا المشروع الثقافي فهم المثقفون والمفكرون الذين يحملون أفكارا ً جديدة تتفق مع السياقات العالمية وتواكب حركتها. المشكلة هي أن العراق خال من الثقافة والمثقفين والمفكرين، فلا أفكار جديدة هناك تلوح في الأفق عدا ترديد شعارات لايعرف مردديها معناها. فالعراق ومع الأسف الشديد خال من الأفكار التي يمكن أن تؤدي إلى حركة اجتماعية ومن ثم إلى تغيير. لقد كان هناك صراع بين التيار الإسلامي والشيوعي من جهة وبين الإسلامي والعلماني من جهة أخرى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي والذي أدى بدوره لحركة ثقافية اجتماعية كنا نعيش على مردودها حتى عقد الثمانينيات. فقد كانت هناك أفكار ومفكرين وقراء وكتاب وكل شيئ. أما الآن فلاتوجد هناك أفكار جديدة ولاصراعات ولاحتى مفكرين. فلا خطاب ليبرالي ولا تقدمي ولاحداثي. أن جل مانملكه هو خطاب ديني يطغى على الحياة السياسية والاجتماعية في العراق يلعب دور المنوم المغناطيسي في ميثولوجياته وفتاواه وخرافاته ويلعب دور المثور الحماسي في تحشيده لقوى المجتمع في معارك سياسية تخدم مصالح ضيقة. كما قلت، لايوجد في العراق مفكرون بارزون من طراز أقليمي أوعالمي بل كل مانملكه هو جيش من الفقهاء يسييطرون على عقول الناس بفتاواهم التي لايجرؤ أحد على نقدها.
ليس بالنفط سيصبح العراق دولة عظمى ولابجيش قوي بل بالعلم والمعرفة والإنتاج. ولايأتي ذلك إلا بوجود مشروع تنموي مستلهم أفكاره من خطاب حداثوي عصري تقدمي، يسعى لبث روح التسامح في مجتمع مدني يحترم به أحدنا الآخر بغض النظر عن الدين والقومية والطائفة والعرق. كل ذلك مفتاحه بيد الدولة العراقية التي تملك الثروة وتوزعها وعليها التركيز على التنمية البشرية والإستفادة من الخبرات العالمية التي ستجلب بالتأكيد معها أفكار جديدة تحرك المياه الراكدة بفعل الفتوى والخرافة والجهل المقدس.
- آخر تحديث :
التعليقات