لم يكن الشيخ الفارع الطول صاحب اللحية السوداء المخضبة بلون الشيب الأبيض يتخيل بأنه سيصبح من الرجال المهمين في الدولة بعد التغيير الذي حدث في العراق.
لقد كان شيخنا يتأنق بملبسه الزيتوني حليق الذقن مع شارب خفيف في الثمانينات من القرن الماضي قبل أن يتحول إلى أسير حرب في أحدى المعارك مع الجارة إيران. لا أعلم أن كان ذهابه لجبهة القتال طوعا ً أم كرها ً لكنه ذهب ولم يعد مخلفا ً وراءه زوجة وعدد من الأطفال الصغار وبيت صغير في منطقة فقيرة بضواحي العاصمة بغداد. لم تنقطع رسائل الشيخ عبر منظمة الصليب الأحمر وعلمنا بأنه صار رجل دين بعد أن أصبح أحد التوابين في معسكرات الأسر في أيران ودخل أحد الحوزات الدينية ليبدل أفكاره من الحزبية إلى الدينية وملبسه من الزيتوني إلى العمامة، لكن منطق الثورة ضل يراوده بالرغم من ذلك التغير، فثورة على الطريقة الدينية ربما لاتختلف كثيرا ً عن الثورة على الطريقة الحزبية. لقد كان التحول من أسير إلى تواب فرصة رائعة للذين يريدون التخلص من قهر الأسر والدخول مجددا ً للمجتمع المدني بدل العيش في أروقة السجون التي يرى فيها الأسير مايرى. ولكن، وبعد سقوط النظام السابق عاد الشيخ ليتصدر المشهد من جديد، ليس كرجل حزبي يأمر وينهي بأسم الحزب والعقيدة القومية بل تسلق منبرا ً وصار يتحدث بأسم الدين نيابة عن الله في الأرض.
ليس هذا التحول الكبير الوحيد الذي حدث في حياة الشيخ بل هناك تحول ربما هو أكبر. فمن بيت صغير كان يملكه في ضواحي العاصمة يملك الآن شيخنا ً بيتا ً كبيرا ً في وسط العاصمة يقدر بملايين الدولارات بل ربما بيتين حسب بعض الأقوال. ليس هذا فحسب بل سيارات فارهة وحماية يقودها أبنائه الذين كانوا صغارا ً فأصبحوا كبارا ً في هذا العالم الجديد.
قصة الشيخ تعبر بإختصار عن قصة تحول لدولة ومجتمع كامل. لقد تحول العراق من بلد كانت تحكمه مجموعة صغيرة من البعثيين جائوا عن طريق الإنقلابات إلى مجموعة من رجال الدين جائوا بعد الإحتلال ومنهم من ساهم فيه. في ليلة وضحاها تحول العراق من بلد ذو لون زيتوني في كل شيئ، إلى بلد مفتوح على مصرعيه تقوده عمامة بيضاء أو سوداء أو ربطة عنق، لحى طويلة ودشاديش قصيرة ونقاب لم نره يوما ً من الأيام ينتشر بهذه السرعة في بغداد، من أهازيج للنصر الزائف تمجد الرجل الأوحد وتحشد الجماهير لمعارك وهمية إلى أغان وقصائد وأناشيد دينية ولطميات تحشد الأتباع والأنصار تدعمها أحزاب دينية تركب الموجة لتكسب أصوات الناخبين، من مجلس وطني لانعرف أسماء أعضائه من البعثيين الذين تقودهم مصالحهم إلى برلمان لايكتمل نصابه يجتمع عند بيت الله الحرام للدعاء للعراق وأهله، من صدام واحد يحكم العراق بالحديد والنار إلى ألف صدام يريد أن يحكم العراق بالدين والمال والجهل والإرهاب. لا أعرف إن كان هذا التحول الكبير سيساعد كثيرا ً بأن يكون العراق ديمقراطيا ً!
أن التحول الديمقراطي في كل بلد لابد أن يرافقه تحول اجتماعي في البنية الأساسية للمجتمع، وبالتأكيد لايتحول المجتمع بقدرة قادر بل هو بحاجة لأفكار جديدة ورجال يحملون هذه الأفكار جادون في عملية التغيير، أضافة إلى مصادر للثروة وقرار سياسي يساعد في عملية التغيير. هذه عوامل داخلية ولكن ربما تحدث عملية تغيير أجتماعي بأثر آخر كصعود الطبقة الوسطى أو الإنفتاح على العالم الخارجي عن طريق وسائل المواصلات والإتصالات كما يحدث الآن في العالم العربي.
ان التحول من مجتمع تقليدي كلاسيكي في علاقاته الإجتماعية إلى مجتمع حداثي مطلب من المطالب لتنجح الديمقراطية في العراق وغير العراق. أن المشكلة في العراق هي أنه تحول من مجتمع تقليدي تحكمه عقيدة حزبية واحدة إلى مجتمع تقليدي تحكمه أفكار سياسية دينية تعتمد على الفتوى في مضمونها، فمن الأيدلوجيا الحزبية إلى الدينية. لاتوجد في العراق أفكار جدية تدعوا إلى مجتمع مدني قائم على أساس المواطنة واحترام الآخر بغض النظر عن الدين والقومية والجنس والطائفة. وحيث لاتوجد أفكار ديمقراطية بالتأكيد سوف لن يكون هناك مشروع ديمقراطي جدي ولا رجال يحملون مضمون هذا المشروع.
ربما نظرتي للأمور متشائمة بعض الشيئ إن لم تكن أكثر من ذلك ولكن هذا ماكتبنا عنه سابقا ً وحذرنا منه عندما كنا أكثر تفاؤلا ً، والآن يبدو أن العراق يتجه نحو التقسيم على أثر فقدان المشروع الديمقراطي الذي يحول العراق من مجتمع تقليدي كلاسيكي إلى مجتمع حداثي وليس إلى مجتمع ديني تقليدي يقوده رجال الدين من الصنف السياسي. المشكلة أن العراق لايملك رجال يحملون فكر ديمقراطي ليبرالي حقيقي، بل مجرد مرددين لشعارات ديمقراطية ويعملون عكس ذلك بعقلية دكتاتورية. هذا من الناحية الفردية أما من الناحية البنيوية فالمجتمع العراقي بنائه تقليدي يعتمد على العشيرة ورجل الدين ونظامه الإداري والقانوني والمصرفي والاقتصادي مازال قائم على فكرة النظام الشمولي ذو الرؤية الواحدة والتي تعتمد على فرد واحد.
فمن مساوئ حزب البعث هو إبتلاع المؤسسات وتحويلها إلى حزبية في خطة مدروسة منذ السبعينيات، فما أن إنهار الحزب حتى أنهارت معه المؤسسات بأجمعها لتنهار الدولة بالكامل.
أن ما واجه العراق ليس بعيدا ً عن مستقبل الدول العربية التي تغير نظامها السياسي وبدأت بالتحول نحو الديمقراطية. فربما ستسير بنفس الدرب ردحا ً من الزمن.
التعليقات