الجزء الأول

المحلل السياسي، هو الذي يرى ما وراء الحدث وحيثياته الدقيقة ولا ينجرف مع التيار الذي مهد له حفار أنفاق المياه الملوثة ليصبوها في المستنقعات الآسنة ولغايات خفية أعمق وأوسع من أن يدخل في مجال رؤية المحللين البسطاء. مثلما تقوم به الحكومة التركية بجرها لأطراف من المعارضة السورية في الخارج، ومحاولة أخراجها من دروبها الأساسية، وإلهائها بأجندات جانبية لا تمت إلى الثورة الشبابية السورية، بل إنها مطبات تبنى في طريق مسيرتها النضالية.

والقادة هم الذين يملكون القدرة في تسخير الحدث لغاياتهم، وأنتقاء الزمان والمكان وإدراك مجريات الأحداث لتمرير أجنداتهم وجلب أكبر قدر ممكن من الرأيين الداخلي والخارجي إلى جانبه.

ولا شك بأن أردوغان أحد هؤلاء القادة. فهو يتلاعب بشعوب المنطقة في أضعف الفترات السياسية، ويستغل ضعف الإنسان الذي ذل وضيعت مفاهيمه بيد طغاة الشرق، كما ويخلق الأحداث التي تدخل في مصلحته ومصلحة الدولة التركية ( فهو وطني تركي متعصب لقوميته قبل دينه وبامتياز) ومن جملتها تسييسه للبعض من ممثلي المعارضة السورية في الخارج لبلوغ غاياته وليست غاية الثورة الشبابية والتي هي موجهة في الوقت الحاضر لأسقاط النظام في سوريا. ورغم ذلك يدفع له على أعماله تلك وبسخاء، بدءاً من التمجيد الفردي إلى ضرب الأمثال بقيادته وحكمته في الإدارة والنزاهة في الحكم من قبل شريحة سخرت لتلك الدعاية، لجعله خليفة الشرق المنتظر!.. إلى دعم أقتصادي هائل لرفع بنيان الدولة التركية خلال فترة حكومة العدالة والتنمية!.

النظرة الجامدة بالمطلق للحركات السياسية ولقادة المعارضة الخارجية أمثال السيدين quot; برهان غليون quot; و quot; البيانوني quot; أدت إلى تزييف لحقائق مفاهيم الثورة في الخارج وتسخيرها لأجندة دولة خارجية كتركيا، وأندهاش الأغلبية من المعارضة السورية عند متاهات التكتيك السياسي للسيد أردوغان وقدرته على السيطرة، فأوصل ببعض السياسيين المعارضين السوريين والمحللين للواقع المحاور بين تركيا وثورات الشرق إلى الضياع في ساحات المراهقة الفكرية، وأسقاطها إلى سوية التلاعب بالحقائق وطمسها وراء غايات آنية أنانية، لا تمت إلى ماهية الثورة، بل تعكس ثقافة الخنوع الذي لا قدرة للخلاص منها، كخنوع بعض قادة المجلس الوطني السوري لأجندات الحكومة التركية، بعد أن أخرجتهم عزيمة الشباب الثائر من خنوعهم النفسي للنظام السوري، فهم بهذا لا يختلفون عن بعض قادة المجلس السوري الموسع الذين لا يزالون يتمرغون في رحاب الخنوع لطغاة آل الأسد، والتي من أجل إزالة هذه الحالة المرعبة الكامنة، والتي خلقها الطغاة في الإنسان السوري، تستديم ثورة الشباب لأسقاط الأنظمة ومن جملتها النظام الثقافي.

في الوقت الذي تدعي الحكومة التركية وعلى رأسها السيد أردوغان أجتياز المفاهيم العرقية المثالية الثابتة والمطلقة لسياسة تركيا الأتاتوركية في ركائزها التاريخية، ينغمس هو وحكومته في الرؤى المثالية الدينية المطلقة والملوثة في كثيره بالماضي العرقي، لهذا لا نجد لديهم الرغبة الواضحة في تجفيف منابع التوتر الداخلي، وتطبيق العدالة والمساواة بأدنى مقوماتها بين المجتمع بكليته، والتي أدت إلى بقاء التربة الملائمة للتنافس والصراع داخل تركيا على أشده ولا أمل في هكذا منطق سياسي بالتخفيف منه. فكيف بهكذا منهجية ومنطق فكري وسياسة خاطئة في الداخل سيتمكن السيد أردوغان وحكومة العدالة والتنمية من تقديم المساعدة الصادقة والتامة للثورة السورية، بل وكيف سيثق بهم الثوار الشباب في الداخل السوري؟!.

خاصة عندما تتضح الحقيقة وتتبين بأنه قد دفع بالحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية وعلى رأسهما السيد أردوغان إلى الساحة العربية كمثال مفروض في زمن الضياع عند بدأ الثورات! على أن يحتذى بهم كأفضل تجربة لحاضر موجود ومستقبل يؤمل فيه! والواقع تظهر بأن تخل تركيا لا تأتي لمساعدة نجاح هذه الثورات! بل لتسييرها وتسخيرها لغاياتها وغايات البعض الذين يملون على تركيا. والعديد من القوى المعارضة العربية السياسية والثقافية تغض الطرف عن الحقيقة المهزوزة والضائعة لدى العامة وراء هذا المنطق، بل وأنجرف البعض منهم وراء هذه الأجندات، وعليه تمكن السيد أردوغان بزج القضية الكردية - التركية الماضية والحاضرة والمستعصية أبداً في مفاهيم أحفاد أتاتورك إلى البازار التكتيك السياسي.

فوجد الشعب الكردي نفسه فجأة في ملتقى نقاط الصراع بين نفاق الحكومات والطغاة وشباب الثورة، وألاعيب الدولة التركية وأملاءاتها على المعارضة العربية السورية في الخارج. الأختيار واضح وموفق حتى اللحظة، بالنسبة للحكومة التركية، وظهرت نتائج شراء ذمم البعض من المعارضة العربية السورية لإستمالة الحركة الكردية، وتحييد مسارها عن خط الثورة الشبابية في الشارع السوري.

لكن القوة الكردية المعارضة والمشاركة في المجلس الوطني السوري عليها أن تدرك، قبل الآخرين، نوعية هذه المؤامرة المدبرة ضد الثورة الشبابية السورية والشعب الكردي معاً، فالشعب الكردي يواجه وعلى مدى عقود قادة يحكمون تركيا لا يملكون الإرادة أو الجرأة، في وضع خريطة الطريق المنطقي لحل القضية الداخلية الأولى، أغلبهم تسيطر عليهم مفاهيم القومية الطورانية، حتى ولو كان المتواجدون الآن على الساحة يتسلحون بدعاية فيض الإلهام الإلهي في تسييرهم لتركيا، لكنهم لم يتجرأو في البحث في القضية الداخلية المستعصية، تمادوا إلى البحث في الخارج، والآن في داخل المعارضة الخارجية للثورة السورية، وأعتمدوا على باطل السياسة في داخل تركيا كحق مكتسب تاريخياً وأظهرو القضية المشابهة لها في الخارج، كما هي في سوريا، كحق أغتصب يجب النضال من أجله، ولكن بطرقهم الخاصة وتحت أجنداتهم المخططة لها مسبقاً، وذلك لسببين:
bull;أدراكهم لمدى التناقض بين ما هم مدفوعون إلى الخوض فيه، وهي مساندة الثورات ضد الطغيان، والطغيان نفسه متفشي في عقر دارهم quot; تركيا quot; ويعتمون عليه بشتى الطرق. والخوف من أن تنتقل الثورة بهذه النوعية إلى داخل المدن التركية. والتي تعتبر من الأسباب التي تخلق التذبذب في مواقفهم من ثورات الشبابية في الشرق.

bull; والثاني هي إستمالة القوى الرأسمالية العالمية إلى تجارة رابحة مقابل تسخير إسلامهم الليبرالي الذي مزج بالعلمانية بطلب من الصهيونية العالمية، لبثها في الشرق الإسلامي الراديكالي والآن في مفاهيم ثورات الشرق، وكانت لهم الكفة الراجحة. وكانت الحصيلة دعم مادي بلغت زروتها في عام 2007 ووصلت إلى 44% من الميزانية العامة للدولة التركية. راجع مقالتي quot; أردوغان تدهور بين السياسة والإقتصاد quot;.

إضافة إلى ذلك حصلت تركيا من وراء تذبذبها مع الثورة السورية وتجارتها السياسية تلك على أربعة مليارات دولار أخرى لإحتوائهم المؤتمرات المعارضة السورية في مدنها، وتغيير لهجتها مع السلطة الدكتاتورية السورية، إضافة إلى التنازل عن بعض الخطط الإستراتيجية المستقبلية والتي كانت قد وقعت عليها سابقاً، بعد الحصول على أعتراف السلطة السورية بلواء الهاتايي كجزء من جغرافية تركيا الأساسية...
يتبع...

د. الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]