اللجنة الوزارية العربية تبدو حتى الآن جادة في محاولة اتنزاع خريطة طريق واضحة وصريحة ومجدولة زمنياً من أجل إنهاء الأزمة السورية. وقد بدت تصريحات الأسد مع اللجنة ومع الصحف أنها مضطربة ذلك أنه بدأ يشعر أن التسويف الذي مارسه على طول الأشهر الماضية لم يعد ينطلي على أحد وأن هناك التزامات واستحقاقات يجب تأديتها. من جهة يحاول الأسد أن يبدي تجاوباً مع اللجنة الوزارية العربية من خلال قبول الاجتماع بها وإرسال وفداً على أعلى مستوى للدوحة من أجل متابعة رأي القيادة السورية بالمبادرة، ومن جهة أخرى يحذر من تدخل عسكري في سوريا لأنه يعرف أن المبادرة العربية أكبر من قدرته على الاستجابة لها، وأن الأمر قد يتطور إلى أبعد من ذلك. كما يصرح ولأول مرة وبطريقة بدت مفاجئة وبدون مقدمات أن المعركة مع الإخوان المسلمين مازالت مستمرة منذ أيام أبيه وحتى اليوم، وهذا من أجل رفض أي حوار مع المجلس الوطني الذي يضم الإخوان المسلمين، يضاف إلى ذلك تصريحه لقناة روسيا اليوم أنه يعول على استمرار الموقف الروسي في دعم سوريا، وفي دفع حلفائه بلبنان إلى التصريح أنهم سيتدخلون في الشأن السوري إذا تعرض النظام للخطر، كل هذه التصريحات تقول أن النظام غير مستعد لتلبية خطة الجامعة العربية في وقف الحل الأمني والبدء بالحوار خارج سوريا. وقد صرح الشيخ حمد رئيس وزراء قطر أن الأمر لا يحتمل لف ودوران، والكلام صريح بأن النظام السوري يحاول كعادته أن يلجأ إلى هذه الطريقة من أجل إجهاض المبادرة العربية وأي مبادرة أخرى، وأن التصريحات الأخيرة للأسد هي تمهيد للتهرب من الحل العربي.
لو فشلت المبادرة العربية سينتقل الملف السوري بكل تأكيد إلى مجلس الأمن وهذا ماتؤكده تسريبات كثيرة حول استعداد الغرب لإعادة طرح الملف السوري، وقد يكون من الصعب على روسيا والصين أن تصوتا بالفيتو مرة ثانية بعد أن أثبت النظام السوري خواء مزاعمه عن الإصلاح والحوار. وهنا قد يتحول الفيتو الأول الذي استخدمته كلاً من الصين وروسيا إلى عبء على أصحابه، فروسيا التي استخدمته مُتهمة بأنها تدافع عن تجارة السلاح، وقد قالت سوزان رايس ذلك صراحة في مجلس الأمن. والصين تخشى دائما من قرارات في مجلس الأمن تتعلق بحقوق الإنسان خوفاً من أن يصل إليها الأمر يوماً ما، ولكن هذا الأمر ذو حدين فخوف الصين من مسائل حقوق الإنسان ربما يجعلها تذهب للدفاع عنها وسحب الفيتو. روسيا والصين ستحاولان إثبات رأيهما أنهما تريدان الحوار بين الأطراف السورية ووقف العنف، وأنهما لا يدعمان نظاماً دموياً في سوريا ولا يشجعانه على العنف وانتهاك حقوق الإنسان.
وفي الحالتين، في حال فشل المبادرة العربية أو في حال ضغط الروس والصينيون على النظام لقبولها سيكون النظام السوري أمام خيارات صعبة ومديوناً للفيتو ومضطراً للإذعان لتوجهات الدولتين. و إذا ذهبت الأمور إلى أحد الاحتمالين فربما تتمكن الدبلوماسية العربية أو دبلوماسية أصحاب الفيتو في تحقيق مايسعى له الشعب السوري من تفكيك النظام وجعله عاجزاً عن ممارسة عنفه الدموي. ولكن كيف سيؤدي الفشل أو النجاح إلى تفكيك النظام؟
لقد فشلت في الماضي كل الدعوات والمبادرات السابقة للنظام لإجراء إصلاحات جدية والقيام بخطوات عملية بما في ذلك الدعوات الأوربية والأمريكية والجامعة العربية، لأن هذه الدعوات لم تكن ملزمة من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم أن هذه الإصلاحات لو بدأ تنقيذها على الأرض لأدت إلى تفكك النظام. ذلك أننا عندما نقول نظام فإننا نتحدث عن مركب كبير من الأطراف، فالكلمة لاتعني شيئاً واحداً: هناك أولاً، العائلة الحاكمة ومصالحها السياسية والاقتصادية في البقاء في السلطة، وثانيا، الجيش والأجهزة الأمنية، وثالثاً، الطرف السياسي من النظام، حزب البعث. وقد كانت عدم استجابة النظام لكل دعوات الإصلاح تنطلق من مبدأ واحد هو أن أي عملية إصلاح ستؤدي إلى خسارة أحد أطرافه، الأمر الذي يعني بداية التفكك. إن إدراك النظام لهذه المسألة جعله لا يستجيب لإتخاذ اجراءات عملية في الإصلاح، واتبع سياسية التسويف عبر إطلاق عملية حوار شكلية وطويلة الأمد بالإضافة لاتخاذ قرارات لاتتجاوز الحبر الذي كتبت فيه وهو الأمر نفسه الذي جعله متماسكاً حتى الآن و حالماً أن يقمع الثورة السورية ويتجاوز كل الأزمة مرة واحدة،. لقد أتخذ النظام استراتيجية واضحة بأنه لا ينوي القيام بإصلاحات على الأرض، وقد صرح بذلك بلغته الخاصة وقالها بشار بأنه لايستطيع إجراء إصلاحات وهناك (عصابات مسلحة) أي هناك تظاهرات وانتفاضة، وحتى الإعلان أن حزب البعث ليس قائداً للدولة والمجتمع لم يتم التصريح به بجدية حتى الآن، وتُرك الأمر معلقاً على تعديلات دستورية قادمة بعد إجراء حوارات مطولة تبدأ من القواعد الشعبية، هذا الحوار الذي لن ينتهي أبداً، وهذا مايريده النظام. أما البعثيون فقد عبروا عن رفضهم لحذف المادة الثامنة من الدستور.
إذن إن خطوات جدية في الإصلاح تقود إلى انسحاب وحدات الجيش والأمن من المدن سيضع هذه الأجهزة على خط ساخن من القلق، خصوصاً مؤسسة الجيش التي ستشعر أنها كانت تقاتل الشعب فعلاً وليس (عصابات مسلحة) وستتساءل هذه المؤسسة عن جدوى زجها في معركة مع الشعب. إن الإصلاح لا بد أن يؤدي إلى خسارة أو سقوط طرفاً من أطراف النظام المغلق على نفسه منذ عقود، وسيؤدي إجراء أي إصلاح جدي إلى فتح نافذة في هذ النظام تؤول إلى تفككه، هذه الأمر يدركه الطرفان النظام والشعب السوري جيداً.
موسكو التي أصبحت في وجه عاصفة الغرب الذي يتهمها بالدفاع عن نظام دموي من أجل استمرار بيع السلاح له، ستضغط على النظام كي يجد أرضية مشتركة مع المعارضة، ولكن الأرضية المشتركة تعني تنازلات من النظام، لأن المعارضة لا تملك شيئا تتنازل عنه سوى مطالبتها بعدم إسقاط النظام. وما عدا ذلك فإن العبء يقع كله على النظام وعلى موسكو التي يجب أن تقنعه وربما تضغط عليه للاستجابة للمطالب الأساسية، التي تتعلق بسحب الجيش من المدن، ووضع جداول زمنية لانتخابات عامة والتصريح بضرورة حل مجلس الشعب الحالي وإلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تنص على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع مع إطلاق سراح جميع الموقوفين ومنع الاعتقال التعسفي، هذا إذا لم نتحدث عن تفكيك الأجهزة الأمنية وإنشاء لجان تحقيق في الجرائم التي ارتكبها الأمن. هذه الحدود هي الدنيا التي بدونها لا تستطيع أي معارضة تجاهلها مهما بلغت في انتهازيتها. وفي المقابل فإن الشارع لن يتوقف عن التظاهر، الأمر الذي يعني عودة الأمور إلى بداياتها التي تثير مخاوف النظام من تفككه.
هنا يبدو الفيتو الروسي والصيني الذي حمى النظام السوري من أية عقوبات دولية شاملة قد صار عبئاً حقيقيا على أصحابه. ذلك أن أي خطوة للأمام ستفرضها روسيا ستؤدي إلى إضعاف النظام، وفي المقابل فإن أي رفض من النظام للدعوات الروسية حتى بإصلاحات منقوصة سيظهر روسيا والصين عاريتين وفاشلتين أمام المجتمع الدولي وأمام مجتمعهما، خصوصاً بالنسبة لروسيا والانتخابات القادمة التي يجب أن يثبت فيها الثنائي ميدفيديف وبوتين نجاح وبراعة الدبلوماسية الروسية.
إن روسيا اليوم هي الوحيدة القادرة مع الصين على فرض حل على النظام السوري إذا فشلت المبادرة العربية، وسيصبح صعباً على النظام تجاهل الدعوة الروسية كما فعل مع مبادرات الغرب ومبادرة الجامعة العربية، وقد أعلنت روسيا على لسان رئيسها الكلام نفسه الذي كان يقوله زعماء أوروبا وأوباما، الإصلاح أو التنحي. وهنا سيبدأ الامتحان الحقيقي للنظام ولمدى قدرته على إجراء إصلاحات عملية، وبالتالي يمكن لنا أن نتنبأ أن الفيتو ربما يؤدي إلى إنجاح الثورة السورية بطريقة مختلفة عن التصورات السابقة. فهذ الفيتو الذي حمى النظام هو نفسه من سيُلزمه بما يكره، وبما يؤدي ربما برأسه، وإلا فسيكون هناك قرار آخر من مجلس الأمن، الأمر الذي يعني انتحار النظام ومحاولته أن ينحر معه المجتمع السوري كله إذا أمكن.
أستاذ جامعي سوري
تنويه: حصل خطأ في نشر المقال السابق للكاتب عبد الحكيم أجهر بإسم كاتب آخر وقد تم التصويب، لذا اقتضى التنويه.
التعليقات