كان يعتقد انه أكبر من الواقع، والمحيطون به ينظرون له بعدائية ويعتبرونه كائن غريب الأطوار لايتورع عن المس بمعتقداتهم وثوابتهم، منذ ان فتح عينه على الدنيا نشب بينه وبين المحيط صراع حكمته ثنائية: التمرد والتدجين.


مع هذا كان كثير الإندماج بالمجتمع رغم صراعه معه.. وعندما وقعت عينه على ملامح ذلك الشاب المسكين في المقهى.. توجع كثيرا لمنظر الإنكسار البادي عليه، بعث له من بعيد بنظرات الود والشفقة، وعندما تعرف عليه.. صحت توقعاته بوجود أزمة مالية لديه.

سبب معاناة الشاب يرجع الى انه يريد الدخول في المدرسة الدينية ليس بهدف دراسة العلوم الدينية، وانما للهروب من الفقر، اذ في المدرسة يحصل على سكن مجاني وطعام وراتب شهري، لكن الحصول على هذه الفرصة صعب جدا من دون معارف ووسطاء نظرا لإنتشار البطالة والفقر، وكثرة الراغبين بدخول المدرسة التي تعتبر أفضل مأوى للفاشلين في الحياة.


- لديّ حل لمشكلتك.. هل أنت مستعد لتطبيق الخطة التي وضعتها؟


سأل الرجل غريب الأطوار الشاب الذي أجابه برجاء اليائس (( مستعد وإعتبرني إبنك يآتمر بأوامرك )).


- طيب أنت من الآن ستكون إبني الروحي.


- وأنت الأب الروحي.

أجاب الشاب بتضرع.


- إسمع.. كل الأساليب التقليدية لن تدخلك للمدرسة بسبب التزاحم عليها، وعدم وجود وسطاء لديك من الوزن الثقيل، الأمر بحاجة الى إسلوب جديد مثير ينتزع موافقتهم ويجعلهم هم يجرون خلفك، هل أنت جاهز لسماع الوصفية السحرية؟


- جاهز.


- سنغير ديانتك من مسلم الى مسيحي نريد التعرف على الإسلام من رجال الدين، وبهذه الطريقة سيجرون هم خلفك لإقناعك بتغيير دينك المسيحي والتحول الى الإسلام وسيقدمون لك كافة المغريات، مارأيك؟


- لكن الكذب حرام.


نظر له الأب الروحي بسخرية وشفقة معا.. ((وهل الفقر والجوع حلال.. هم يتنعمون بالأموال والنساء وأشهى أنواع الطعام، وأنت تستجدي طعامك؟.. بئس الإبن الروحي انت.. يالك من خائب لايعرف كيف يعيش)) عنفه الأب الروحي برفق.


- يوجد إحتمال إنكشاف أمري وأنفضح.


- هل يعرفك أحد انك مسلم؟


- لا.


- جيد، ثم إسمك هو اسم مشترك بين المسلمين والمسيحيين.


ساد الصمت والتردد على اللقاء، كان الشاب ممزقا مابين الفقر والجوع، ومابين الخوف من الخطيئة الأخلاقية والحرمة الدينية.


- إبني كل الطرق مشروعة اذا كنت فقيرا جائعا.. ماذا قررت؟

- موافق على الخطة.

قالها الشاب بصعوبة.


- ممتاز.. إريد منك طاعة عمياء للأب الروحي.. أنت بأيدي أمينة، الخطوة الأولى تشتري صليب المسيح وتعلقه على رقبتك، ثم نذهب بعدها الى الشيخ مسؤول المدرسة بحجة انك مسيحي تسأله عن صحة ذكر الرسول محمد في الكتاب المقدس للمسيحيين؟


دخل الأب الروحي أولا ثم تبعه الشاب الى مجلس الشيخ المنتفخ البطن والرقبة، وهذه الماركة المشتركة لأكثر رجال الدين : إنتفاخ كرش البطن وغلظ حجم الرقبة دليل على حياة الترف والبطالة، فرجال الدين ليس لديهم عمل غير جمع المال وممارسة الجنس مع أكثر عدد ممكن من النساء، وملأ البطن بالطعام الدسم، بعد شربه للشاي تقدم بخشوع مصطنع الأب الروحي نحو الشيخ وسلم عليه بحرارة، وأخبره عن الشاب المسيحي الذي يبحث عن حقيقة الإسلام، وقد جاء به خصيصا له لعله يهديه على يديه الى الصراط المستقيم ويكسب الأجر والثواب، إنفتح أسارير الشيخ ونظر بإهتمام الى الشاب، وأخذ يردد الدعاء بأن يوفقه الله لهدايته الى طريق الحق.


تعمد الشاب إبراز الصليب المتدلي على رقبته وهو يسأل الشيخ عن ورود ذكر الرسول محمد في كتب المسيحيين، وأخذ يبدي الدهشة والإعجاب بكلام الشيخ الذي تحدث عن خاتم النبيين وبطلان جميع الأديان السابقة، كان الأب الروحي يتفحص ملامح الشاب وهو يمثل دور المسيحي المعجب بخطبة الشيخ (( تلميذ ذكي )) ردد في سره وكتم إبتسامته.

خرجا من مجلس الشيخ، (( كيف رأيتني؟)) سأل الشاب (( تلاميذي دائما أذكياء )) ضحك الأب الروحي منتشيا بنجاح الخطوة الأولى من الخطة.


بعد ثلاثة أيام عادا الى مجلس الشيخ، وقص الشاب في المجلس بصوت مسموع رؤياه التي شاهدها في المنام، اذ رأى الشيخ مرتديا لباسا أبيضا وراكبا فرس ويشير بيده الى الشاب بإتجاه طريق مستقيم محاط بالحدائق والزهور.. كبر الشيخ وحمد الله، وقال : هذه بشارة خير وبركة، ورسالة إلهية مرسلة له لمواصلة طريق خدمة الإسلام، كانت الرؤيا من نسج خيال الأب الروحي لقنها للشاب كجزء من فصول خطة الوصول للمدرسة.


عندما رأى الشيخ الأب الروحي وحده يدخل مجلسه، سأله عن الشاب المسيحي.. فرسم ملامح الحزن على وجهه وأخبره بتعرضه الى مرض مفاجيء، ثم دنى من الشيخ وهمس في أذنه مقترحا عليه تقديم مساعدة مالية بإعتباره من المؤلفة قلوبهم الذين ذكر القرآن أحقيتهم بأخذ حصة من بيت مال المسلمين، وكانت المفاجئة موافقة الشيخ الفورية وطلبه بأن يأتي الشاب اليه، وحضر الشاب في اليوم التالي مفتعلا التمارض وإستلم مبلغا ماليا كان يحلم به في مثل ظروف عيشه الصعب.


- ماهي أول خطوة ستفعلها بالمال؟

سأل الأب الروحي ضاحكا.


- لاأعرف.


- يالك من إبن عاق ناكر للجميل، الخطوة الأولى نذهب الى المطعم لتناول العشاء من بركات مولانا الشيخ.

كان الاب الروحي يمضغ ويزدرد الطعام بتلذذ، ويطلب من الشاب ان يأكل حتى التخمة من الطعام المبارك بأموال سماحة الشيخ، وكانت من المرات النادرة دخول مثل هذا المطعم بالنسبة للفقراء الذين يعيشون على تناول الفول والحمص بطحينة.


تصنع الشاب الحيرة وعدم معرفة الحقيقة بشأن الأديان بناءً على وصايا الأب... فرح الشيخ بحيرة الشاب وإعتبرها بداية تزعزع إيمانه بالمسيحية، وإقترح عليه الحضور الى مكتبة المدرسة والإطلاع على عقائد وفكر الإسلام، نزل هذا المقترح كالصاعقة على مسامعه وجعله يشعر بقرب تحقيق هدفة بدخول المدرسة وتأمين السكن والطعام مجانا اضافة الى الراتب الشهري.


خلع الصليب عن رقبته كإشارة على حيرته وضعف إرتباطه بالمسيحية، وإحتفى به كثيرا مشايخ وطلاب المدرسة أثناء تواجده في المكتبة، كانت عذابا حقيقيا التظاهر بقراءة الكتب الدينية المملة، لاحظ إنتشار حكاية الرؤيا التي حلم بها، وأكثر من واحد طلب منه إعادة سردها، ويبدو ان الشيخ أشاعها متعمدا للتدليل على إيمانه وقربه من الله الذي أوكل اليه هداية هذا الشاب المسيحي الى الصراط المستقيم.


- اليوم الخطوة الحاسمة.. لابد من إجادة الدور.


إرتشف الأب الروحي الشاي وهو ويوزع النظرات مابين التطلع الى الشارع الذي تطل عليه المقهى ومابين الشاب وهو يلقنه أهم الفصول التكتيكية الخاصة بإشهار إسلامه على يد الشيخ بعد ان إقتنع بالحقيقة و دخل نور الإسلام الى قلبه، وتم الإتفاق على أن يكون المدخل عاطفيا حافلا بالدراما.


إحتضنه الشيخ مقبلا إياه بحرارة بعد ان نطق الشاب بالشهادتين وخرج من المسيحية ودخل في الإسلام، نهض كل من كان جالسا في مجلس الشيخ مباركين للشاب على الهداية، وعلت التكبيرات والتسبيحات وصيحات أللهم صلي على محمد، وهنا إنقض الأب الروحي على الشيخ مستثمرا هذه اللحظة العاطفية، وإقترح عليه من أجل تثبيت قلب الشاب على الإسلام ان يدخل المدرسة لدراسة العلوم الدينية، وماكان شبه مستحيل، صار خلال ثوان ممكنا ووافق الشيخ على المقترح بل رحب به بشدة وتم قبوله طالبا بالمدرسة، وأصبح لقبه الشيخ.


[email protected]