ربما ظن رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية، بانه قادر على الاستمرار في لعبة quot;الشدquot; وquot;الجذبquot; مع حزب العمال الكردستاني الى مالانهاية. فهو قبل كل مناسبة انتخابية quot;يرخيquot; الحبل ويدعو الجيش للهدوء وعدم المضي في شن العمليات العسكرية ضد الكردستاني، لكي يٌتاح لآلة الدعاية التابعة لحزبه للعمل بشكل أفضل في ولايات كردستان الشمالية: فتشتري ذمم الناس بالآلات الكهربائية وأكياس الفحم والطحين والسكر، بالاضافة الى ارساله جيوشا من الأئمة المؤدلجين والمنافقين على السواء، والذين يحرّفون كل مقدس فيضعون أردوغان في مصاف الخلافاء ويطيبونه من نسل الأنبياء المرسلين، بحيث تٌكافئ طاعته بالجنة وعصيان أوامره بالنار!

ثبتّ حزب العدالة والتنمية على هذه السياسة في الانتخابات البلدية في آذار 2009 وعندما وجد حزب العمال الكردستاني وقد استحوذ على جل المساحة الكردية وحصل على 98 بلدية، جنّ جنونه وعمد الى شن حملة اعتقالات كبيرة طالت رؤساء بلديات منتخبين وساسة ونشطاء كرد وصل عددهم الى 3000 شخص. وعندما أراد هؤلاء الدفاع عن انفسهم أمام المحاكم باللغة الكردية، منعتهم الجهات القضائية التركية ونٌقل عن رئيس الجمهورية عبدالله غول: quot;في تركيا لغة واحدة رسمية وهي اللغة التركيةquot;!. وكان أردوغان قد قال معلقا على النصر الكردي في تلك الانتخابات قائلا quot;المواطنون في مناطق جنوب الشرق صوتوا لهويتهم القوميةquot;!. بينما نجحت المحكمة الدستورية العليا، وبالأدلة التي قدمتها الحكومة، في حظر حزب المجتمع الديمقراطي!.

الزعيم الكردي الأسير عبدالله أوجلان تدخل مرة أخرى لكي يمنع التدهور الشامل ويحول دون وقوع quot;حرب المائة عامquot; التي تحدث عنها كثيرا، فطرح مشروع (خارطة طريق للحل الديمقراطي) الذي وضعت الحكومة يدها عليه وحالت دون وصوله لمحاميه، ودعى أوجلان حزب العمال الكردستاني الى اعلان هدنة لتهيئة الاجواء من اجل اطلاق مباحثات الحل والسلام. راوغ أردوغان مطولا، بين شد وجذب، الى أن جاءت الانتخابات البرلمانية، حيث تفاعل مجددا مع المرونة الكردية، الى ان انقضت الانتخابات بفوز جديد لحزب العمال الكردستاني والذي حصل مؤيدوه على 36 مقعدا نيابيا. رجع أردوغان الى عادته، فأوعز للجيش بمواصلة العمليات العسكرية وتوسيعها رغم التزام الكردستاني بقرار وقف اطلاق النار، وهو ماتسبب في مقتل العشرات من مقاتلي هذا الاخير. كما رفض العدالة والتنمية اطلاق سراح 6 برلمانيين كرد من السجون رغم فوزهم وحصولهم على الحصانة التي تمنحهم الحق في دخول البرلمان. ومضى اردوغان في الاستهتار بالشعب الكردي وارادته فجاء بامراءة كانت مٌرشحة عن حزبه في دياربكر وهٌزمت شر هزيمة امام السياسي الكردي المسجون خطيب دجلة ( والذي حصل على اعلى نسبة تصويت في كل تركيا) لتحل محل دجلة، مما زاد في غضب الكرد وارتفاع حالة الاحتقان. كما شدد من حالة العزلة على أوجلان ومنع محاميه من اللقاء او الاتصال به. واستمرت حملات الاعتقالات والحرب والقصف الجوي على مناطق قنديل. امام هذا الاصرار على الحرب لم يملك اوجلان الا الاعلان عن quot;الانسحاب من المشهد السياسيquot; وترك المبادرة لحزب العمال الكردستاني، والذي قرر مخاطبة أردوغان باللغة التي يفهمها والرد بالمثل.


العملية العسكرية النوعيّة الأخيرة في منطقة (جلي) التابعة لولاية هكاري/جولمرك اسفرت عن مقتل اكثر من 50 جنديا تركيا وجرح العشرات. وهي جاءت بعد عشرات العمليات الاخرى التي نفذتها قوات الكردستاني، وكبدت الجيش التركي واجهزة شرطة الحزب الحاكم عشرات القتلى والجرحى. اراد حزب العمال الكردستاني ان يٌظهر بعضا من قوته العسكرية وقدرة الردع لديه لكي يٌبين للحكومة التركية بأنه ليس في موقع الضعيف العاجز، وان سياسية القمع واعتقال الساسة المنتخبين ورفض الاعتراف بالهوية الكردية والاستمرار في شن العمليات العسكرية وعزل اوجلان، سيقابلها حتما رد قوي، قادر على افساد خطط أردوغان وحزبه المراهنة على التصفية والامحاء.

الرد النوعّي الأخير جاء في توقيت حساس بعد ان قطع أردوغان كل الاتصالات مع الكردستاني واصر على عزل وتهميش قائده بحجة quot;اصداره تعليمات للمنظمة في الخارجquot; كما قال.

لقد تأكد للكردستاني بان حزب العدالة والتنمية كان يناور لكسب الوقت وتهيئة فرص أفضل للقضاء على الحركة الكردية. حتى المباحثات الاخيرة التي جرت في العاصمة النرويجية أوسلو بين من تصفهم أنقرة بquot;الإرهابيينquot; ومسؤولي الاستخبارات والحزب الحاكم تم قطعها، بل وانكر أردوغان quot;المسوّدات الأوليةquot; للاتفاق على حل القضية الكردية والتي وقعها مسؤولون أتراك مع أوجلان في سجن جزيرة (ايمرالي) قبل عام ونصف من الآن. لقد تأكد للكردستاني بان الدولة التركية لن تلجأ الى الحل طالما تظن نفسها هي الطرف الاقوى القادر على القمع والقتل وفعل كل شيء دون تلقي الرد الموجع، فقرر الرد بالطريقة التي يراها كافية لايصال رسالته واظهار بعض من قوته.

الضربة الأخيرة حدثت بحرفيّة عالية. وهذه الضربة مشروعة في العرف العسكري لانها استهدفت جنودا اعداء في حالة حرب ومواجهة، والحديث عن quot;ارهابيةquot; هذه العملية يأتي من دافع سياسي وليس حقوقي. والملفت بان الجهات التي ادانت العملية لم تدن ولا مرة عمليات قتل الجيش التركي للمقاتلين الكرد أو حتى جرائم قتل الشرطة والاستخبارات التركية للمدنيين في المظاهرات التي جابت المدن الكردية.

الولايات المتحدة الاميركية التي تفاوض حركة quot;طالبانquot; الافغانية الآن وتدعوها للحوار للمشاركة في حكم البلاد وانهاء حالة العصيان المسلح، ادانت العملية ونددت بها. واشنطن رأت في هذه العملية فرصة أخرى لعرض خدماتها على أنقرة وشحن هذه الاخيرة ضد الشعب الكردي لكي تغرق اكثر وأكثر في العنف، فتصبح ضعيفة يسهل السيطرة عليها وابتزازها وربطها بالمشاريع الاميركية في المنطقة.

أما حديث البعض عن علاقة هذه العملية بايران او سوريا، فهو حديث ممجوج وساذج وخبيث. فحزب العمال الكردستاني يقرر بحسب مايراه مناسبا لواقع الحال في كردستان، وهو لايرسم سياساته بناء على توازنات خارجية أو تلبية لرغبات أو مطالب جهات اجنبية. هو كان يرد على حملات الحرب التركية عندما كان رجب طيب أردوغان quot;حبيب قلبquot; النظام السوري ويحاول انقاذه من ورطته الحالية، وهو يرد عليه الآن، وقد تدهورت العلاقات بين الجانبين. حزب العمال الكردستاني كان يرد عسكريا عندما كانت العلاقات التركية الاسرائيلية في افضل مراحلها وطائرات quot;الهرونquot; الاسرائيلية الصنع تكشف مناطق قنديل وتحدد الاهداف الكردية لآلة الحرب التركية، كما يرد الان وهذه العلاقات قد quot;تدهورتquot; وتعطلت في بعض جوانبها.

الأرجح بان عمليات حزب العمال الكردستاني سوف تستمر، وهي تأتي كخيار أخير بعد ان استنفذ هذا الحزب كل الخيارات السياسية الأخرى وبات لايملك الا الرد بالمثل والدفاع عن نفسه ازاء اصرار حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان على سياسة الحرب والاقصاء والحسم العسكري.

نتوقع ان نرى رجب طيب أردوغان قريبا في احد الخنادق المتقدمة في الجبهة، كما فعل قبل عام ونصف، عندما صعّد الكردستاني من عمليات الرد العسكري النوعيّة. السيناريو سيكون مستعادا حتما. وربما يصدر أردوغان آوامره بحملة عسكرية جديدة في اقليم كردستان العراق ليحفظ بعضا من ماء وجهه، وهو مايعني فشلا جديدا على طريق الحرب وسفك المزيد من الدماء.

الواضح بان حزب العدالة والتنمية لن يتمكن من القضاء على الحركة القومية الكردية طالما هذه الاخيرة تستند الى ملايين الكرد في الداخل والخارج ولديها كل امكانات البقاء والديمومة. لامناص اذن من استئناف الحوار مع الجانب السياسي المتمثل في شخص زعيم الحركة عبدالله اوجلان. ولتتأكد أنقرة بان أوجلان هو ضمان السلام وهو الذي يمنع حتى الآن تدهور الأمور الى مواجهة شاملة قد تطيح بكل المشهد التركي وتحول البلاد الى ساحة حرب اهلية مفتوحة.

الأفضل لأردوغان الذي يسدي نصائحا في quot;الديمقراطيةquot; وquot;الحريةquot; وquot;احترام ارادة الشعوبquot; لحكام المنطقة أن يلتفت للنار المشتعلة في بلاده، وان يعمد لحل القضية الكردية ويتوقف عن الرهان على الحرب والقمع. والأحرى به وهو الذي يتوسط بين حركة quot;حماسquot; الفلسطينية والدولة العبرية، ان يقود بنفسه المباحثات مع الشعب الكردي وحركته القومية ويؤسس لتركيا جديدة، ديمقراطية لكل ابنائها. أما غير ذلك، فستكون الأوضاع على غير مايشتهيه أردوغان وجماعته، والعنف سيجر عنفا مقابلا، والشعب الكردي، الاستاذ الرائد في فنون النضال والكفاح، لن يتأخر عن اللحاق بقطار الثورات الشاملة الذي يجوب المنطقة الآن، بل وقيادة هذا القطار ايضا..

[email protected]