يشخص الدكتور علي الوردي ظاهرة ازدواجية الشصية على إنها من الظواهر التي تصيب شخصية الفرد العراقي, وهذه الظاهرة متجذرة في ثقافة المجتمع العراقي على أثر تضارب منظومتين من القيم. فالهجرات المتواصلة من الريف إلى المدينة والغزوات المتتالية من بدو الصحراء إلى المدينة جعلتا العراق محطة لتلاقي قيم البداوة مع قيم الحضارة على مدى مئات السنين مما إنعكس سلبا ً على الثقافة العراقية. ومن أعراض هذه الظاهرة هي أن يفعل الإنسان احيانيا ً عكس ما يعتقد, فتراه يضايق بنات الناس في الشارع بالكلمات ولكن وفي نفس الوقت يحرص على أن لايمس أحد إحدى أخواته أو بنات المنطقة أو المحلة التي يسكن فيها. لكن الذي يبدو هو أن هذه الظاهرة لم تنعكس على شخصية الفرد العراقي فحسب بل على العقل السياسي العراقي والذي أنعكس على أداء جميع مؤسسات الدولة وأولها المؤسسات الحكومية.

فعندما أختار السياسيون العراقيون الديمقراطية كنظام سياسي ورفعوها كشعار لإدارة الدولة فعليهم الإلتزام والعمل على تطبيقها وليس العمل بعكس ماتتطلبه الديمقراطية. إن الديمقراطية كنظام سياسي لاتأتي كهدية مقدمة بعلبة جميلة من أحد, بل هي صيرورة يتم التعامل معها على إنها بحاجة لتطبيق وتفعيل ومحافظة. فلابد أن يكون هناك تناغم بين الثقافة الاجتماعية السائدة والعقل السياسي في موضوع الديمقراطية. فلايمكن لثقافة سلبية يكون فيها الفرد متلقي فقط ويعامل على إنه موضوع, وتنتمي تلك الثقافة السلبية لنظام إجتماعي تقليدي أن تكون حاضنة للديمقراطية والتي هي بحاجة لثقافة إيجابية تنتمي لنظام إجتماعي حداثي, يكون الفرد فيها فاعل ومؤثر على جميع المستويات. أن مشكلة العراق أن ثقافته الاجتماعية السائدة ثقافة سلبية تنتمي للعصور التقليدية والنظم الشمولية حيث يعتمد الفرد على المؤسسات في تسيير أموره وهي بدورها لاتحترمه وتقلل من شعوره بالتبعية والإنتماء بل تتعامل معه على إنه موضوع بحت ومتلقي وعليه الطاعة. وأقصد بالمؤسسات جميع أنوعها إبتداءا ً من الاجتماعية كالعائلة والعشيرة إلى الحكومية كدوائر الدولة. إن تفعيل النظام الديمقراطي بحاجة لتطوير الثقافة السائدة وتحويلها لثقافة إيجابية يكون الفرد فيها هو صاحب الأمر وهو الذي يقرر مصيره. ولكن تلك النقلة بحاجة لمشروع ثقافي تقف خلفه اجندة سياسية تعمل على ذلك, وهو بحاجة لتعديلات قانونية وإدارية وكثير من الأموال تصرف في مشاريع تهتم بالتنمية البشرية.

أن مسؤولية الدولة العراقية كبيرة لتحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع ديمقراطي ليتناغم بها النظام السياسي مع النظام الاجتماعي بحيث لايصبح هناك تصادم بين نظامين فتكون هناك ازدواجية في عمل المؤسسات. أن من يملك مصادر الثروة ويقسمها يكون هو المسؤول عن ذلك وهي الدولة بالطبع. المشكلة هي أن الدولة بمؤسساتها لازالت تنتمي لثقافة النظام التقليدي باالرغم من شعارات الديمقراطية. خذ مثلا ً أن الدولة تعطي للاعبي المنتخب العراقي قطع من الأراضي كهدية لفوزهم في كأس آسيا قبل سنوات. الموضوع ليس موضوع إن كان اللاعبون يستحقون أم لا, فهم قاموا بما عليهم ويستحقون ربما أكثر من ذلك, ولكن تصرف الدولة باموال الشعب وتوزيعها على طريقة الملوك أو كمنحة من دكتاتور يملك حتى رقاب الناس فإنه بالتاكيد عمل لايمت لنظام ديمقراطي. الدولة في النظام الديمقراطي لاتملك شيئا ً لتقوم بتوزيعه على من تشاء بل هي حارس فقط وهي مخولة في أدارة الثروة وليس توزيعها كهبات. خذ مثلا ً آخر وهو فرض الزي الموحد في الجامعات العراقية, فهو قانون لايحترم خصوصية وذوق الطالب في إختيار ملابسه بل يلغيه ويحوله لموضوع بحت من خلال تعميم ذوق واحد هو ذوق الدولة. فالتعميم هو من صفات النظام السلطوي الشمولي, أما الديمقراطية فتسعى للتنوع وتمكين الفرد من أجل التنوع. أن الحرية جزء لايتجزء من الديمقراطية بشقيها الإيجابي والسلبي.

على الدولة, وهي التي تملك الثروة, أن تقوم بتمكين الفرد ليكون إيجابيا ً وفاعلا ً في النظام الديمقراطي. فلابد من التركيز على التنمية البشرية ورصد الاموال لذلك. أن أهم ماتقوم به الدولة هو إصلاح نظام التعليم وتطويره فهو المفتاح للدخول للثقافة الإيجابية. فلا ديمقراطية في بلد فيه أكثر من ستة ملايين أمي. وعليها صرف الأموال من خلال فتح سبل التواصل الإجتماعي لتبادل التجربة والخبرات بالخصوص بين الجنسين وذلك من خلال دعم الأفراد للحصول على أجهزة الكمبيوتر بتقليل سعره أو رفع الضريبة عن إستيراده, وتوفير نظام أتصالات فعال يكون رخيص الثمن لتمكين الكل من دخول عالم الانترنت. على الدولة رفع مستوى المرأة من خلال المشاريع التنموية والإستعانة بالخبرات الأجنبية في ذلك من خلال تشريع قوانين في صالحها وإلغاء أخرى, أو من خلال تمييزها إيجابيا ً في جميع المجالات لتحقيق مبدأ المساواة. أن كل ماقلته بحاجة لإرادة سياسية وقرارات جريئة يقف خلفها مشروع ثقافي يشارك فيه الجميع من سياسيين ومثقفين لنقل الثقافة العراقية السائدة من سلبية لإيجابية ومن ثم تنعكس على العقل السياسي لتصبح الديمقراطية ليست مجرد شعارات.

عماد رسن
[email protected]