مقدمة: لم يرد نص الخيانة العظمى في دستور العراق الجديد أِلا في فقرة لحالة واحدة عن جريمة قد يرتكبها رئيس الجمهورية. وبمتابعة مهازل القدر بالقراءة الموضوعية للتاريخ تجد على سبيل المثال أن معظم رجال الدولة الذين كانوا قد طالبوا بأصلاحات وحقوق وحريات للمضطهدين في طوائفهم وقومياتهم ودافعوا عن معتقداتهم، واجهتهم الدولة بعقوبات الخيانة العظمى وأصدرتْ بحقهم أحكام الأعدام، السيد جلال طالباني الرئيس الحالي واحد منهم، حيث كانت قد أُلصقت به التهمة مرات ومرات من حكومة البعث وحتى من القوى الكردية المنافسة خلال الأقتتال الكردي - الكردي في التسعينات.
أدخال نص quot;الخيانة العظمىquot; في الدستور العراقي يتطلب التصنيف للحالات التي يرفعها مجلس النواب وتتم المصادقة عليها وتوسيع مهام السلطة القضائية لتشمل جرائم من يدعو الى تقسيم العراق وأنفصال أجزاء منه.
والذي أريد أيصال القارئ أِليه هو أن تاريخنا حافل بتُهم الخيانة العظمى، الجائرة منها أو المثبتة العادلة بدليل جنائي، كذلك منها التي تخضع الى ثُقل الدستور و قرارمحكمة قضائية أو مجلس عسكري أو شرع أسلامي، كما هو حافل بالتهم الأنتقامية الجائرة الباطلة حينما كانت، في معظم الحالات، تَصدر بمراسيم جمهورية لأشباع أهواء القيادة العليا وتتبع ممارساتها تطبيق شريعة الغاب وأصدار أحكام من جهات وأفراد لهم سلطة تنفيذية متنفذة تتجاوز وتتجاهل تماماً سلطة القضاء والأحكام والقوانين الواردة في مؤسسات وأنظمة الدولة.
ذلك مارأهُ شعب العراق في حالات الفوضى والفوران والتخريب الفكري رجوعاً الى العهد الملكي وأعدام الملك فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الأله وأسرتهم رمياً بالرصاص على أبواب قصر الرحاب عام 1958....وأحكام جائرة أعتباطية أنتقامية أخرى وتهم تسطير خيانة الوطن التي صدرت ضد معظم قادة العراق دون محاكمات ومرافعات تحديد الجرم... نوري السعيد، ناظم الطبقجلي، عبد الكريم قاسم، عبد الرزاق النايف، الصدر، الحكيم، المالكي، علاوي، الجعفري... وآخرون ممن طالتهم أيدي الحقد وتم أعدامهم في عهود مختلفة ولم تتوفر لهم كلمة واحدة من سبل الدفاع القضائي المعروفة في العالم المُتحضر. وهي النقطة التي يُثار حديث وجدل أساتذة السياسة والباحثين الأجتماعيين بشأنها عند تحريف سياق quot; الخيانة العظمىquot; لتتلائم مع ما يبغيه الحاكم عبر حقب تاريخية مختلفة الى وقتنا هذا.
بعد هذه المقدمة ينبغي تحليل دوافع توجيه تهم الخيانة العظمى بطريقة البحث والمقارنة الموضوعية وتوسيع ثقافة أفراد المجتمع بأهمية تفعيل عقوبة الأعدام (رغم خطورتها) في حالات الفوضى السياسية عندما يكون التكالب على السلطة والنفوذ والصراع العقائدي داخل هياكل السلطة أحدى أهم هذه التوجهات أو التلميح عن رغبات شعوبية خطيرة لبعض المتطلعين الى تقسيم الدولة وأنفصال أقاليمها عن جسم الدولة المعترف به دولياً. وبكلمة أخرى، فأني أرى أن السلطة المخولة بالتشريع تتخلى عن واجباتها النيابية والدستورية أِن لم تقم بتوجيه (صفعة) لمن يصطنع ويختلق ميادين حرب جديدة أو التهيئة لها داخلياً وأقليمياً بالأعلان أو التصريح بمثل هذا التوجه.
حينئذ، يكون واجب الحكومة المركزية حماية أقليمها وتراب أرضها وتعميق ثقافة الألتصاق بالأرض والوطن لأولائك الذين جروا أو يحاولون جرشعب العراق الى عهد الحرب والخيانة بأرتكاز فكري بيئي شرير لايستطعون الفكاك والخلاص منه، وكذلك بأصدار صيغ ولوائح أتهام قضائية وقرارات المحاسبة بتطبيق أجراءات دستورية أصولية من شأنها كبح جماح الشخصيات الأقليمية وورثة ثقافة الأصل العرقي وطموحاتهم في أنشاء وحدات منفصلة عن الدولة الأم.
تطفح على سطح الأحداث في العراق أقوال ورغبات وأفكار تتحدث عن أنفصال الأقليم الكردي وغرس سمومها بين جيل الكرد وأيقاعهم في فخ الصراع العرقي. ويسمع عراقيون أصوات تأييد أعضاء في مجلس النواب للفكرة التي تحمل في طياتها أحتمالات التمزق والأنفصال على أسس عرقية وتقسيم العراق على غرار التجربة الفاشلة في تأسيس جمهورية مهاباد كجمهورية كردية أنشئت سنة 1946 وسقوطها بعد 11 شهراً دون أعتراف أي دولة بها، أو بأعادة سيناريو تقسيم السودان ليتكرر في العراق مع سكوت مخزي أو حيادية ممن تقمصوا ثوب الوطن والوطنية. مجموعة أنتهازية تعلل الأنفصال لسوء تفسيرها للحكم الفدرالي وتمتع الأقاليم بالحرية والعدالة والأعمار، من بينها النائب حسن العلوي الذي أطلق العنان لتوسيع ثقافة تشكيل كيان مستقل للأقليم الكردي. فخلال أمسية نظمتها نقابة الصحافين الأكراد في اربيل، قال البعثي الحزبي السابق إن quot;الوقت حان للإعلان عن تشكيل الكيان القومي للكرد وإعلان دولتهمquot;، مؤكدا أن quot;دول الجوار التي تخوفكم وتهددكم مشغولة عنكمquot;، مشيرا إلى أن دعوته هذه quot;ليست مزايدة، فقد طالبت بهذا منذ العام 2006quot;.
ونظراً لاضطراب مفاهيم الشراكة الحقة في المجتمع العراقي فأن عقوبة الاعدام هي أول عمل تشريعي في مؤسسة أية دولة تنوي الحفاظ على كيانها من المخربين المنافقين المتطفلين الشعوبيين والمتاجرين بقضايا الثقافة الوطنية. ولاأستطيع أن أؤكد بما فيه الكفاية أن مفهومquot; الخيانة العظمى quot; مفتقد من نصوص الدستور العراقي وتتخبط على ضوء ذلك كتل سياسية في تحديد الولاء المجتمعي وتعاريف الوطنية في القاموس العراقي السياسي و تحديد الحالات التي تستوجب تنفيذ أحكام الأعدام وأنزال العقوبة بحق خونة الوطن وكل مسؤول في السلطة يدعو ويُصرح الى الأنفصال والأقتتال بين أبناء الشعب الواحد. فمنظمات المجتمع المدني وجمعية المحامين العراقية في حاجة الى مناقشة أصول الأجراءات القضائية والتعرف على الحالات التي تجوز فيها للدولة وممثلي مؤسساتها توجيه تهم quot; الخيانة العظمى quot; وفق لوائح قضائية رسمية لأفراد في كتل سياسية يمثلون شعب العراق و يقومون بتوجيه سياسة تحريضية أنتقامية أنتقائية خبيثة تضر بالبلاد كما سبق أن رأيناها في قواميس الكتل السياسية العراقية. جرائم الخيانة الوطنية يجب أن تُحاسب عندما تتبنى أي مجموعة سياسية : الدعوة الى لتقسيم أرض الوطن، الأنفصال، العمالة والتجسس لحساب دولة أجنبية، والتصرف بالمال العام ممن كان قد أدى اليمين والقسم.
مانوع الحساب لمن أعترفَ بجنس الذنب الأنفصالي والتحريض عليه بعد قيامه بجريمة الخيانة العظمى ؟ ومانوع محاسبة الأخرين ممن تتباين قيمهم ومُثلهم ومقاييسهم الحضارية وهم ينعمون بمزايا وحقوق ويلوحون في أخطر بادرة، تحدي كيان الدولة بالمطالبة بالأنفصال ؟
ضياء الحكيم
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات