اثبت العراقييون انهم على خلق كبير في تعاملهم مع رئيسهم المعدوم صدام حسين في حينه من خلال النموذج الذي قدموه للعالمين العربي والاسلامي وللمجتمع الدولي وذلك بمحاكمته وفق السنن القضائية، وان انتهت نهاية الرجل بالاعدام بسبب ارتكابه جرائم عديدة ضد الانسانية لابادة مكونات أساسية من الشعب العراقي منها الكرد والشيعة وأهالي قرية الدجيل وجرائم اخرى.
ولم ينحصر النموذج العراقي للتعامل مع المسؤولين عن الطغيان والاستبداد والقمع باجراء محاكمة عادلة لرئيس النظام البائد الذي حكم العراق اكثر من ثلاثة عقود بشريعة القمع والاضطهاد والطغيان، ولا ينكر انه رغم استبداده لكنه اقدم على خدمة العراقيين في الجوانب الحياتية والمعيشية والخدماتية، بل تميز النموذج بابداء الاحترام لموت الطاغية صدام ونهايته المحتومة وذلك بالسماح بدفنه وفق التقاليد الاسلامية في مسقط رأسه بين أهله وعشيرته مع السماح لزيارة قبره، وكان لهذا التصرف الحكيم النابع من التقاليد الاخلاقية والاجتماعية الأثر الكبير في امتصاص نقمة وغضب الكثيرين على صدام بسبب ارتكابه لجرائم شنيعة بحق العراقيين.
ونفس الالتزام باجراء المحاكمة العادلة لصدام من قبل العراقيين فقد تم اتخاذه بنفس العدالة بحق مسؤولين اخرين في نظام صدام بالرغم من ارتكابهم لجرائم تندى لها جبين البشرية مثل علي حسن المجيد المعروف بعلي الكيمياوي الذي اشرف على جرائم الأنفال لابادة الكرد وجريمة مذبحة حلبجة التي ذهبت ضحيتها أكثر من خمسة الالف كردي بفعل الغازات الكيمياوية، ومسؤولون اخرون من أمثال برزان التكريتي وطه الجزراوي وغيرهم.
ولهذا يعتبر تعامل العراقيين بهذا الخصوص محل تقدير واعتبار عالي وقد قوبل باحترام من قبل منظمات حقوق الانسان ومن قبل دول المنظومة الديمقراطية في اوربا وامريكا واسيا، وحظي بتقدير الامم المتحدة، وحظي القضاة والادعاء العام بتقدير الكثير من قبل المؤسسات القانونية والجهات القضائية الدولية، ونموذج القاضي العراقي الكردي رزكار محمد أمين كان دليلا على ما يعنيه مبدأ أستقلالية القضاء من معنى والتعامل الانساني للعراقيين مع المتهمين وان كانوا من المستبدين، فلم يبال القاضي بكل الضغوط التي مورست ضد ادارته لجلسات المحاكمة من اي جهة كانت واثبت أنه لم يخضع لأبتزاز الحملات الاعلامية وتخرصات بعض الفضائيات في حينه، وكان مثالاّ للقاضي الذي لا يدير اجراءات المحاكمة حسب الأهواء والانفعالات ولم يفزعه من وقف امامه قي قاعة المحاكمة من المتهمين ولم يهزه زعيق المحتجين من موكلين بالدفاع عن المتهمين من خارج العراق.
وقد سجل النظام القضائي في العراق بهذه الممارسة في العهد الجديد مسيرة متقدمة وصار نبراسا للأخلاص والنزاهة واحقاق الحق، وأزهاق الباطل، ورغم احتواء تاريخ مسيرتة تجاوزات عليه وانتهاك لقيمه وأعرافه وتطاول الحكام على مقدساته، وتسخيره لخدمة مآرب السلطان كما في عهد صدام والنخب الحاكمة والاعتداء على حرمة استقلاليته ونزاهته، رغم كل ذلك بقي نظام القضاء العراقي الأمل الكبير لدى المواطنيين الذي يجد فيه ضالته في البحث عن العدل بعيدا عن تسلط وجور وفساد الحكام.
وموقف الرئيس العراقي جلال الطالباني من حكم الاعدام مشهود له وهو احد الداعمين والمساندين لفكرة الغاء حكم الاعدام في المحاكم، والحملة الدولية لالغاء هذه العقوبة جارية كما هو الحال بالنسبة لأوروبا حيث أن المادة الثانية من ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي يحرم تطبيق هذه العقوبة، واليوم ترى منظمة العفو الدولية أن معظم الدول مؤيدة لإبطال هذه العقوبة، وهذا ما أتاح للأمم المتحدة أن تقوم بصدور قرار غير ملزم لإلغاء عقوبة الإعدام لتطبيق هذا النهج في النظام القضائي للدول الاعضاء في المنظمة.
المهم في الأمر، شاهد العالم النهاية المؤلمة والمأساوية للعقيد معمر القذافي من قبل مجموعة ليبية ثورية فقدت السيطرة على نفسها وابتعدت عن انسانيتها وضميرها ووجدانها لتفعل وتتعامل بسلوكيات بعيدة عن اي اعتبار انساني مع القذافي لحظة القبض عليه وهو في حالة ضعف وانهيار تام، ولم تجدي توسلاته (حرام.. حرام.. حرام عليكم) بتعامل انساني بسبب مسؤوليته في قمع واضطهاد واستبداد وظلم الشعب الليبي طوال أكثر من أربعين عاما، ولم تجدي التصاوير العديدة بالموبايل للموقف وخوفهم من الظهور العلني في عملية القبض، وكذلك الخوف من اثار استغلال الصور والمشاهد الملتطقة بالهاتف النقال من قبل منظمات حقوق الانسان والامم المتحدة التي طالبت المجلس الانتقالي الليبي باجراء تحقيق عن مقتل القذافي.
وبسبب هذا العمل العنيف تجاه القذافي لم يقدر المجلس الانتقالي الليبي على تقديم صورة انسانية مشرفة بعيدة عن ردود الافعال للعهد الجديد في ليبيا، وقد صدم الكثيرون من هول المشاهد والممارسات غير الانسانية التي ارتكبت بحق المقبوض عليه، وقد علق البعض ان هذا العمل الغاضب صارت صفحة سوداء في صفحات الثورة الليبية ضد الطاغية القذافي.
ورغم ان سقوط القذافي بهذه الطريقة المأساوية هو مجرد معلم واحد على طريق الحرية الذي كان مسدودا بوجه الليبين وقد جرى الاحتفال به ليس فقط في شوارع طرابلس او مصراتة وانما في اغلب بقاع ليبيا، الا أن هذا الختام الدموي للقذافي العنيف ستبعث برسالة قوية الى الطغاة الآخرين من أمثال بشار الاسد في سورية وعلي عبد الله صالح في اليمن لكي لا يظلا في وهم بان العنف والقمع سيضمن لهما إحكام قبضتهما على السلطة للبقاء على النظام، ويبدو انهما لا يدركان ان حركة وثورة الشعب عندما تنكسر قيودها لا تسعفها غير الحرية، ولا يدركان في حقيقة الامر ايضا ان المجاميع الثورية في لحظة غضبها وانفعالها لا تعرف رحمة ولا شفقة كما حصل للقذافي الذي تحول الى نموذج صارخ للنهاية المأساوية التي تنتظر الطغاة.
وضمن هذا السياق لابد ان نذكر ان الكثير من العرب والمسلمين نددوا بالسلطة العراقية في حينه للنهاية التي انتهى اليها صدام حسين، ولكن اليوم نجد أن أصوات هؤلاء بدأت تعلو وتقول بعد ان شاهدوا النهاية الماساوية وغير الانسانية للقذافي، ان صدام انتهى بنهاية مشرفة وان تعامل العراقيين معه في وقته كان مشرفا ومحترما وعلى التزام بالسياقات القضائية والقانونية المرعية للتعامل مع المتهمين حتى وان كان طاغيا، ولا شك ان هذا الاعتراف المتأخر عن النهج القضائي لنظام الحكم الدستوري المثبت بعد سقوط صنم الاستبداد يبين ان العهد الجديد في العراق سائر بوتيرة انسانية وفق معايير القيم ومباديء وحقوق الانسان بالرغم من الارهاب والاجرام والفساد الجاري في الحكومة والبرلمان والاحزاب.
وهنا لا بد من القول ان النجاح في ضمان نهاية انسانية لطاغية العراق يسجل كنقطة مشرقة لصالح العراقيين كأمة متحضرة وقد أثبتت انها نبع للتسامح والتعايش المشترك، والكرد بهذا الخصوص قدموا صفحات مشرقة عن التسامح والعفو ابان انتفاضة الشعب بعد غزو صدام للكويت، والنهج الجديد في ارساء القيم الانسانية في ما بعد سقوط صنم الطغيان هو الذي حفظ العراق من الوقوع في كارثة الحرب الأهلية بالرغم من الخطط الارهابية والاجندات الخبيثة لبعض دول الجوار التي حاولت وتحاول ان ترمي بالبلاد في حرب طائفية لا نهاية لها.
كاتب صحفي ndash; بغداد
[email protected]
التعليقات