بات سماع أنباء إهراق وهدر الدماء التركية عاديا هذه الأيام إلي الحد الذي يشعر المرء أن الأيام صارت ترفض الرحيل دون أن تسجل دفاترها ضحاياها من الأتراك سواء في تركيا أو في العراق.!

وفي هذين البلدين تستشعر بثمة من يتربص ويخطط لأجل إهراق هذه الدماء، وتسيل الدماء حماقة أحيانا، وغدرا غالبا . ويبقي السؤال من المنفذ؟ من الذي يتربص ويخطط وينفذ هذه العمليات التخريبية الإرهابية حيال التركمان في العراق، والأتراك في تركيا..؟!

فالربط الآن بين الضحايا الأتراك في تركيا وأبناء الأصول التركية ( التركمان ) في العراق لايأتي من باب الفانتازيا السياسية، أو الخيالات التآمرية وإنما هو واقع لا بد أن يبصره ساسة تركيا ويلتفتوا إليه إن كانوا يريدون وقف هذا النزيف الدموي للجسد التركي .. وأعداء تركيا المستفيدين من هذه الجرائم الإرهابية محصورة في الكيان الصهيوني ( إسرائيل )، و إيران ومنظمة الــ P.P.K الإرهابية، ومسعود البارزاني وجلال الطالباني وحصن الحماية لمنظمة الـــP.P.K، وهنا لا بد أن نسأل عن دور جهاز المخابرات التركي ( MIT ) واخفاقاته التي تتوالي حيال التفجيرات التي استهدفت اسطنبول وأنقرة والجنود الأتراك تباعا..؟!
لماذا إسرائيل أولا؟

فأما عن إسرائيل ودورها في مثل هذه الإضطرابات فهو لا يخفي علي أحد، فالخلافات التركية الإسرائيلية اليوم وصلت إلي حد القطيعة بعد إعتداء وحدة الحربية الإسرائيلية (شييطت 13) علي السفينة ( مرمرة ) في 31 مايو 2010.

والذي راح ضحيته 9 أتراك وأصابة 30 آخرين، ثم رفض إسرائيل الإعتذار رسميا عن هذا الهجوم ؛ الأمر الذي دفع تركيا باتخاذ إجراءات عقابية ضد الكيان الصهيوني بدأت بتجميد الإتفاقيات العسكرية ثم تخفيض مستوي التمثيل الديبلوماسي بين البلدين إلي السكرتير الثاني، وليس هذا وحسب بل جاءت هذه الإجراءات في ظل سعي تركي حثيث للتقارب مع الدول العربية والإسلامية الأمر الذي أثار الرعب في إسرائيل، حيث تطمح تركيا في إقامة مجلس للتعاون العسكري مع مصر، ومعها ليبيا وتونس من أجل السيطرة علي البحر المتوسط الذي تمتلك تركيا أطول شريط ساحلي عليه، ثم تقترب أكثر وأكثر من السعودية ومنطقة الخليج مستغلة علاقاتها بإيران وبإمكانية لعبها دورا في تقارب إيراني خليجي بهدف كسب صداقة أكبر مصادر للطاقة في العالم، وقبل كل هذه الإجراءات فإن إسرائيل لم تسترح يوما لحزب العدالة والتنمية منذ فوزه في الانتخابات البرلمانية التركية 2002 حيث سعي الحزب لإعادة صياغة التوجهات التركية وفق رؤاه الساعية لمد الجسور مع الدول العربية والإسلامية والذي يري العدالة والتنمية أن تاريخ تركيا في هذه البلاد يمكن البناء عليه رغم كل المحاولات التاريخية للدول الغربية لتشويه وجه الدولة التركية، ثم تقليص دور الجيش التركي داخليا، وإعادة هيكلة جهاز المخابرات القومي التركي ( MIT ) والذي أصبح علي رأسه منذ 26 مايو آيار2010 أحد مستشاري الطيب أوردغان حاقان فيدان خلفا لصديق إسرائيل إمرا تاتر، الأمر الذي أرّق إسرائيل حيث بات تستشعر أن العدالة والتنمية يسعي إلي أسلمة أجهزة الدولة التركية وإعادة تركيا إلي الواجهة التي تجعل منها أملا ودعامة وحامية للقضايا العربية والإسلامية العالقة مع إسرائيل علي وجه الخصوص.

ثم هناك ما هو أعظم في أسباب الخلاف أو القطيعة الحالية وهو ما تم تسريبه لبعض الصحف التركية والغربية من إقرار تركيا الوثيقة الجديدة للأمن القومي والتي صنفت إسرائيل بأنها تهديد رئيسي لأمن تركيا مقابل إزالة سوريا، وإيران وروسيا بالإضافة إلى اليونان، وجورجيا، وأرمينيا وبلغاريا جزئيا من قائمة الدول التي تعد تهديدا خارجيا لتركيا، وهذا أمر ليس ببسيط وإنما بمثابة انقلاب في مفاهيم الأمن والعلاقات الإستراتيجية.


ولتوضيح أهمية هذه الوثيقة لقارئنا العزيز نقول له إن هذه الوثيقة توصف بالدستور السري للبلاد أو الكتاب الأحمر والتي يتم وضعها من قبل القيادتين السياسية والعسكرية وهي الأهم لجهة تحديد الإستراتيجيات الأمنية للسياسة التركية حيث يتم تجديدها كل خمس سنوات، واللافت في الوثيقة الحالية هو أن من وضعها هذه المرة -وللمرة الأولى في تاريخ البلاد- هو الحكومة المدنية وتحديدا من قبل الأمين العام لرئاسة الحكومة وليس الجيش كما جرت العادة خلال العقود الماضية، وهذا مؤشر قوي على أن الحكومة هي التي باتت ترسم الخطوط الحمر للدستور السري وليس جنرالات المؤسسة العسكرية الذين كانوا يشكلون عصب العلاقة القوية مع إسرائيل خلال الفترة الماضية، ولذا فإن إسرائيل يستحيل أن تقف صامتة دون سعي دؤوب وفي كل الاتجهات من أجل النيل من تركيا الجديدة.


وأما عن التربص الصهيوني بتركيا فهو لم يتوقف مع كل ما قدمته الدولة التركية، فهي أول دولة إسلامية اعترفت بالكيان الصهيوني، وارتبطت معه بعلاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية وتخابرية علي أعلي مستوي ؛ غير أن إسرائيل الإخطبوتية لا تثق أبدا لدولة مسلمة وإن ملأت العلمانية قلب كل رضيع فيها ..! فكانت إسرائيل ورجال مخابراتها في كثير من التفجيرات التي طالت مطاعم وفنادق وجنود تركيا، فهي التي كانت وراء مقتل الجنود الأتراك في لواء الأسكندرونة في ليلة توجه اسطول الحرية إلي غزة، وهي التي سعت إلي تفجير المطاعم والفنادق من أجل ضرب المصدر الأول للعملة الأوروبية في تركيا ألا وهي السياحة، فقد ذكرت صحيفة ( أثنبريس ) اليونانية أن الموساد يقف وراء التفجيرات التي وقعت في العاصمة التركية أواخر العام 2005، واحتج السفير الصهيوني لدي اليونان آنذاك، واعتبرها إهانة مجانية لدولته، ونظرا للخلافات التركية اليونانية فقد شعر الأتراك أن اليونان قد تسعي لغرس الشك في نفوس الأتراك حيال الحليف الإسرائيلي، ولكن بعد ثلاثة أشهر تجددت القضية بعد وقوع انفجار في أحد المطاعم بالعاصمة التركية اسطنبول، والذي خلف أربعة قتلي بينهم طفل صغير!

وهو الإنفجار الذي استغلته الصحف العلمانية المتطرفة في تركيا لتوجيه أصابع الإتهام إلي الإسلاميين، غير أنه تبين بعد ذلك دور الموساد الإسرائيلي في هذه العملية ونشرت العديد من الصحف التركية في 27 مايو آيار 2006 اتهامات صريحة للصهاينة بتنفيذ عشرات المحاولات التفجيرية داخل تركيا بعضها وقع فعلا، والأخري استطاعت مصالح الأمن أن تبطل مفعولها.


وكان الهدف الأول منهذه التفجيرات قطعا هو تخويف الأتراك من خطر الإسلاميين ومن ثم السماح للمؤسسة العسكرية لتتمادي في تطرفها العنيف ضد الحركات الإسلامية التركية وضد المواطنين الأتراك الرافضين للتنصل من عقيدتهم ومن إسلامهم ومن قضاياهم الجوهرية المرتبطة ارتباطا عميقا بقضايا الأمة الإسلامية .



صحافي وباحث مصري