منزوع الكبرياء وبلا رتوش ولا زوايا مختارة سلفا للصورة النمطية عن القائد المهيب، المتعالي، المتجهم، يظهر الطاغية ذليلا بين أيدي من يحيط به ومن شاهدهم دوما في أحلامه او في كوابيسه العديدة طوال عقود. لا فرق بين الحلم والكابوس هنا، ولا بين الواقع والمتوقع في هذه اللحظة التي أجلتها مقادير القسوة وسنوات البطش ودورة الدماء والإمعان في الإستبداد والطغيان. تختل المقاييس التي لم يدرك هشاشتها إلاّ في هذه الدقائق الأخيرة وهو يخسر خلالها الرهان الأخير، وترتبك الموازين وتتداخل الصور بالوجوه والأسلحة بصرخات الضحايا، وتتصادم عبارات اللعنة والمذلة مع هتافات الموت والقصاص. وقد لا يدرك حتى أمام المصير المحتوم، حقيقة ما حوله من غضب وغليان غطّت عليهما طويلا، جموع أخرى من منشدي quot;بالروح وبالدّمquot; في سنوات الحكم، وقد يحمل ذهوله وتساؤله الحارق هذا معه الى القبر حيث يتساوى فيه، السؤال والجواب.

وكالهارب من الأشباح أو القادم من عالمهم السفلي، يبدو الزعيم المظفّر مجرّدا من الوهم والنياشين والأوامر التي لا تناقش والقرارات التي تقضي بالموت والحياة، ومن حراسة الحرس والحمايات، وتقارير العسس والمخابرات وبهاء القصور وأضواء الكاميرات، ليستفيق على صدمة أنه مجرّد فرد عادي في نهاية المطاف، تحرّكه غريزة الحياة كالآخرين، وربّما يكون أدنى شأنا منهم في درجة الضعف البشري والتوسّل وطلب الرحمة والشفقة قياسا ببني جنسه في لحظات مماثلة قدّام الموت.

ماذا لوأتيحت له فرصة البقاء على قيد الحياة ؟.هل يمكن مثلا، أن يعود مواطنا صالحا أو إنسانا تصحو إنسانيته ويقرّ بذنوبه وبإقترافه مجازر وجرائم لا تحصى بحقّ مواطنيه، ويعترف بها ويعتذر عنها من خلال محاكمة عادلة يفضح فيها أسرار كثيرة في لعبة الحكم والحكام في منطقتنا ؟.

النموذج العراقي بهذا الصدد لم يكن مشجعا، لا لكونه كان النموذج الأسوأ لمرافعات هزيلة سميّت بمحاكمات كان يفترض فيها أن تجري لنظام سياسي كامل لتكشف أمام الرأي العام كلّ القوى والدول والمنظمات والصحف وشركات الأسلحة والمصالح والتوازنات الخارجية التي ساندت الديكتاتور ودعمت نظامه خلال أربعة عقود، وبالتالي والأهم، هو الكشف عن المعايير والسلوكيات والأخلاق ومنظومة القيم الإجتماعية الداخلية، التي أدّت الى بروز الطغيان وساهمت في نشأتها وتطورها وسيادتها على الحياة السياسية والإجتماعية، من أجل تطهير السياسة والمجتمع معا ونهائيا منها وتأسيس أوضاع جديدة على أسس وقيّم ومبادئ غير تلك التي عرفها في الماضي، بل لكون المثال العراقي أيضا، قد أثبت بالتجربة أنّ الأيادي والعوامل والقوى، التي صنعت لنا الطغاة، ومجدّتهم ومهدّت لهم وإستدعتهم كي يحكمونا، لا تزال بين ظهرانينا، وفي دواخل أحزابنا السياسية ومناهج وعقول قادتها ولا تزال نفوسهم تهفو لصورة القائد الملهم، وقواهم الحقيقية لم تستنفذ لإعادة إنتاج الطغاة مستقبلا وإن بصور وأشكال جديدة ومستحدثة تتوافق مؤقتا مع مشاريع الديمقراطية والتحرّر والحرية والكرامة الإنسانية وتركب موجاتها.

الطاغية هنا أو هناك، ليس مجرّد فرد أو صورة يمكن التخلص منها بالسهولة والسرعة التي نعتقدها عبر أساليب الهياج والهيجان والإنتقام والعنفوان الثوري، ولا تمحى الآثار العميقة للطغيان بإعدامه وتمزيق صوره وتحطيم تماثيله، بل قد يصبح وبحكم التماهي والمعاشرة والصورة الواحدة الأحادية التي خيّمت على الوعي الجمعي طويلا، أكثر من عقلية ومن منهج للتفكير وأقوى من مؤسسة ضاربة جذورها عمقا بقوة بين الأفراد والجماعات والتي لا ينالها حتما، القصف الجوّي ولا خراب البنى التحتية ولا إقتحام القصور الرئاسية ولا محاولات إعادة البناء بواسطة الإحجار والأدوات القديمة التي حالما ستظهر بثياب جديدة، وإنّما بالعمل الجادّ على بناء الأوطان من جديد والإلتحام بالقوى الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والإستجابة الكاملة لمتطلباتها العادلة والمشروعة في حياة حرّة وكريمة ودراسة الأسباب العميقة والكامنة وراء تفجّر الأوضاع في منطقتنا ومعالجتها سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وثقافيا بصورة منهجية ومتكاملة.

من المؤكد أنّ للطاغية صور شتى لا يحصرها البوم واحد، وصوره التي تتربص بنا في كل منعطف تاريخي، هي الأخرى عديدة ومتنوعة، ولكنّ الصورة الأبقى والأكثر تعلقا في الأذهان هي صورته الأخيرة.