على الرغم من تضارب الروايات والأفكار حول اللحظات الأخيرة لمقتل العقيد الفقيد (معمر القذافي) ملك ملوك إفريقيا، وربما آخر ملوكهم المتوجين، وتنازع النسبة بين كتائب الثوار أنفسهم وحلف الناتو في تبوء quot;شرفquot; قتله والتضحية به على قربان الحرية والديمقراطية لبلد المجاهد الشهير عمر المختار، إلا أن حادثة القتل وما رافقها من تجاوزات وانتهاكات لا إنسانية، تستحق أن نقف عندها مطولاً.
لست من أنصار القذافي ومرتزقته الذين جمعهم من هنا وهناك للدفاع عن امبراطوريته المالية المتداعية، حتى يقال إنني أدافع عن (بطل).. (شهيد)..(مقاوم)، كما يحلو لأنصاره ومرتزقته أن يصفوه بعد هلاكه، غير مأسوفاً عليه. كما أنني لست من أتباع الإمام (الغائب)، حتى الآن، موسى الصدر حتى يقال إنني أتشفى بمقتله، لكنه يتنازعني الرغبة إلى القبض عليه ومحاكمته لمعرفة مصير الإمام المغيب، كما يرى بعض أنصار الإمام المغيب وحركة أمل في لبنان.
ما لفت نظري بداية حال المقاربة والمشابهة التي عقدها بعض السذج من دعاة القومية العربية أو من تبقى وما تبقى منهم ومنها، وتشبيه حادثة قتله بحادثة قتل الرئيس quot;الشهيدquot; صدام حسين، في أول يوم من عيد الأضحى المبارك، فيما تمت quot;التضحيةquot; بالقذافي على أبواب العيد ذاته، في مشهد بكائي يستدعي اللطم والتباكي على تاريخ الرجلين الناصع البياض!.
وفي ظني، أن دعاة التيار القومي وهم يشاهدون كيفية انتقام الشعوب العربية من قادتها ورؤوس أنظمتها المتداعين، يرتعدون من تكرار المشهد مع أكثر من بلد (قومي.. عروبي) فلا يهدأ لهم بال حتى يكيلوا التهم ويصفوا المكائد التي آلت بزعمائهم هم دون غيرهم، إلى مزابل التاريخ وغياهب النسيان، بسبب فتاوى البعض، وأوامر الآخرين.
ما أردت التركيز عليه بعد هذه الاستفاضة أنني لا أشكك في حجم الألم والأمل الذي يحدو الشعب الليبي وجميع الأمة في القضاء على واحد من أهم رموز الطغيان والفساد والقهر العربي في العصر الحديث، لكن تضارب الأنباء حول كيفية إلقاء القبض عليه، ومقتله بعد ذلك، والصور المزعجة التي تم بثها عن رجل ملطخ وجهه بالدماء، يتقاذفه الثوار يمنة ويسرة، وينهالون عليه بالضرب والشتم والسخرية، فيما بدا مذهولاً وحائراً ومرتعداً من مصير مجهول لم يصبر آسروه على تنفيذه بعد محاكمة عادلة على جرائمه، كل هذه اللقطات السريعة والمقرفة، وكأننا أمام طقس هندي أحمر أو بربري حول فريسة تم صيدها للتو، يجعلنا نسأل عن المعاني التي ثار لأجلها الشعب الليبي، والقيم التي جاءت بها الثورة الليبية، والتي سوف تعامل بها أبناءها بعد الفراغ من القضاء على رموز النظام.
لقد أثبت الثوار الذين قبضوا على القذافي أن تراث الأخير قد ظل حياً باقياً بينهم عندما تعاملوا معه بهذه الهمجية، وقدموا نموذجاً سيئاً عن الثورات العربية أعادت إلى الأذهان النموذج الستاليني أو الفاشي في ممارساتها واستلهمته، صحيح أن حجم الفرحة والألم والغيظ كان كبيراً في صدور كل الشعب الليبي إزاء القذافي، لكن الأصح أنه كان يتوجب على حكماء الرأي بينهم أن يعاملوه وفق المبادئ الإسلامية والإنسانية الخاصة بالأسير، التي تضمن له نوعا من كرامة الأسر، أم أننا على استعداد للتسامح مع أعدائنا والآخرين أكثر من قدرتنا على التسامح والصفح مع بني جلدتنا؟!
مفهوم المواطنة أو الوطن الذي تم تبديده على أيد آسري القذافي قد يكون له دلالات مستقبلية سوف تتكشف عندما تهدأ الأمور ويكتشف الجميع أن القذافي لم يقتل.. وأنه حي يرزق، هذه ليست إحدى دعابات القذافي التي انتشرت عقب مقتله، بل هي حقيقة صارخة ومؤلمة سوف يرى الجميع آثارها وانعكاسها على الواقع الليبي، فيما بدا حلف الناتو والغرب من ورائه أكثر الفرحين بإنجاز حققه الثوار بأيديهم عنه، ويكفيهم فرحاً أن تموت مع القذافي ملفات وقضايا وحسابات مالية مجهولة في بنوكهم، على الأقل، أو أنهم تجنبوا بمقتله محاكماة موازية لمحاكمته أمام العدالة الإنسانية... والليبية أيضاً.