تساؤلات كثيرة طرحت، في مختلف الأوساط السياسية والثقافية العربية، حول محددات مواقف الدول العظمى من الحراك السياسي والثورات التي يشهدها العالم العربي في الوقت الرهن. البعض رفع عقيرته للتنديد بالمؤامرة الغربية ضد البلدان العربية، وأعلن أننا أمام موجة استعمارية جديدة ومن نوع خاص، على المستوى الشكلي، وليس على مستوى الجوهر والمضمون، إذ ما الفرق، في النهاية، بين شعار الاستعمار القديم الذي يتحدث عن المساهمة في إدخال الحضارة إلى بلدان وقارات بأكملها لإخراجها من ظلمات الجهل والتوحش، وبين شعارات اليوم التي تعلن أن الهدف هو إنساني محض لأن المدنيين يقتلون هنا أو يبادون، بصورة جماعية، هناك من قبل حكوماتهم التي فقدت شرعيتها بين عشية وضحاها بعد أن كانت المخاطب الرئيسي لهذه القوى التي تقصفها اليوم بالصواريخ وتدمر بنى بلدانها التحتية وتحاول تحطيم ترساناتها ومقدراتها العسكرية. ولا يمكن أن يغير من هذه الحقيقة وجود من طالبوا الغرب بالتدخل في هذه البلدان، لأن الذرائع لا تعوز الغزاة في أي عصر من العصور.
وذهب آخرون إلى أن الغرب قد خذل أنظمة كانت إلى عشية اندلاع الحركات الاحتجاجية حليفة له على مختلف المستويات. الأمر الذي يعني أن هذه الدول لا ينبغي أن يعتمد عليها لأنها ليست أهلا بثقة أحد لأن ما يحركها ويتحكم في سلوكها هو خدمة مصالحها المادية والسياسية والجيوسياسية، بغض النظر عن طبيعة التحالفات التي يتطلبها الأمر والتغيرات التي تطرا عليها بين فترة وأخرى بحسب ما تمليه عليها مصالحها وأهدافها السياسية والإستراتيجية، بينما حاول البعض الآخر تفسير المواقف الغربية بخوف مجمل الدول الكبرى من انفلات زمام أمور العالم العربي من بين يديها من خلال فقدان أنظمة تتهاوى دون كسب ود القوى التي ستؤول إليها الأمور، وهو ما يعني خسارتين في آن واحد من الصعب تحمل تبعاتهما، وبالتالي، كان لزاما عليها إعادة تقويم الأوضاع بصورة جذرية وحاسمة لأنها في سباق مع الزمن بعد نزول الناس إلى الشوارع في تحد واضح لترسانة قمع الأنظمة التي تحركت بكثافة في مواجهة المتظاهرين المطالبين بالإصلاحات السياسية والاجتماعية التي من شأنها أن تغير مجرى حياتهم بما يجعلهم يلحقون بركب المجتمعات الديمقراطية الحديثة.
وهناك من ذهب إلى أن الدول الغربية التي تعاني من أزمة مالية واقتصادية حادة خلال السنوات الأخيرة بحاجة إلى أموال طائلة لضخها في اقتصادياتها، علها تخرج من دائرة الأزمة، وقد أغرتها الأموال العربية المودعة بالمليارات في بنوكها المختلفة فقررت وضع اليد عليها، بدعوى تجميد أموال الحكام ومن يدورون في فلك الأنظمة الذين يتعرضون بقوة وعنف وبكل ما يملكون من موارد مادية للثورات الاجتماعية والسياسية حتى لا تستخدم تلك الأموال في دعم القوى التي ترغب في القضاء عليها. وقد أعطى المثال الليبي الدليل الملموس على أن الهدف من تجميد تلك الأموال إن كان في جزء منه تمويل المعارضة المسلحة للنظام الليبي فإن الجزء الأكبر منها قد يتحول إلى رصيد احتياطي لتغطية نفقات حرب حلف شمال الأطلسي، علاوة على ما ستحصل عليه دوله من التسهيلات في مجال العقود التجارية والاستثمارية في مرحلة إعادة إعمار البلاد مما يجعلنا أمام تكرار كاريكاتوري لسيناريو غزو العراق والإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين.
وإذا كان من الصعب اعتماد أي من التفسيرات السابقة باعتبارها التفسير الحصري لما جرى ويجري على الساحة العربية لأن ظاهرة الحراك الاجتماعي والسياسي، وتعاطي الدول الغربية معه يجد تفسيره في عوامل متعددة ومتداخلة منها ما هو مرتبط بصراع النماذج الاجتماعية والسياسية، ومنها ما تعلق بطبيعة المصالح المتناقضة لمختلف الفرقاء المحليين والإقليميين والدوليين، فإن التفسير الذي قدمته الخارجية الأمريكية للظاهرة، وكيفية التعاطي معها يساعد على إلقاء الأضواء الكاشفة على هذه المسألة التي تكثف العديد من الرهانات السياسية والإستراتيجية الراهنة والمستقبلية على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق، بالتحديد، كانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون واضحة وصريحة عندما أعلنت أن التغيير في البلدان العربية مصلحة استراتيجية أمريكية، ولا تتعلق بمبادئ مثالية مجردة. وبهذا التصريح وضعت كلينتون الموقف الأمريكي في سياق دقيق، لأنه أزال كل أساس للغط وللتأويلات المثالية الممكنة من قبل الغرب ومن قبل الداعين إلى تدخله في الشؤون العربية من باب الدفاع عن حقوق الإنسان أو العمل على تعميم سيادة المبادئ الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية أو ما شابه.
وبطبيعة الحال، فإن المصالح الإستراتيجية تقاس بعوامل من جنسها ذاتها، وليس بمقاييس المبادئ والتصورات المثالية التي لا تمت بأي صلة فعلية مع مقتضيات الواقع والحياة السياسية والأهداف الإستراتيجية الضمنية أو المعلنة للدول والقوى التي ترى أنها تشكل طرفا في المعادلات القائمة، أو تحاول أن تجد لها مداخل إلى الفعل والتأثير في تلك المعادلات. وغني عن التذكير بأن من يحدد تلك المصالح هو الطرف الذي تسري نتائج الاستراتيجية المعتمدة عليه قبل غيره. أي الولايات المتحدة الأمريكية في سياق هذا التصريح ومجمل الدول الغربية بصفة عامة، والتي تعمل على الملاءمة بين مختلف الأوضاع المستجدة على مختلف ساحات الحراك الاجتماعي والسياسي مع مقتضيات وشروط الاستفادة شبه الحصرية من تلك النتائج ما عدا ما يمكن أن تسمح به من المكاسب الثانوية لشركائها الثانويين الذين هم في الواقع القوى المحلية التي استدعت تدخل تلك القوى بهذه الطريقة أو تلك.
هذا يعني أن صيغة من صيغ التحالف التقليدية مع القوى السائدة في المجتمعات العربية قد استنفدت كل مقومات استمرارها، لذلك بادرت القوى الغربية الأساسية إلى تجريب صيغ جديدة تعتقد أنها تسمح لها بمواصلة دورها الهيمني في المنطقة، اعتمادا على قوى جديدة ووفق أساليب جديدة. فإذا كانت الأنظمة التسلطية قد شكلت في الماضي ضمانة لمصالح القوى الغربية المتنفذة على الساحة الدولية عندما كانت هذه القوى ترى في قوى الإسلام السياسي عدوها الرئيسي، فإنها قد اختارت،على ما يبدو، استراتيجية جديدة في خدمة مصالحها وبناء تحالفاتها مع القوى المحلية، تنطلق من ضرورة التعامل المباشر معها وليس عبر وسائط الديكتاتوريات والأنظمة التسلطية خاصة بعد أن تبين أن حركات الإسلام السياسي وخاصة تنظيم الإخوان المسلمين الدولي قد أعاد النظر في استراتيجية نضاله من أجل الوصول إلى السلطة وهي استراتيجية خصصت مكانا وازنا داخلها للتحالف مع القوى الغربية بما فيها الشيطان الأكبر للإطاحة بالأنظمة التسلطية ونسج علاقات الصداقة مع الغرب بعد أن كان عدوها اللدود في مجمل خطابها الإيديولوجي. إنها في الواقع مرحلة جديدة في بلورة الخطط الإستراتيجية للدول العظمى تجاه المنطقة في ضوء بعض التغيرات المحلية التي لا يبدو أن ملامح تشكلها قد اكتملت إلى حد الآن، الأمر الذي يعني أن هوامش المجهول ما تزال مفتوحة في وجه رهانات تلك الخطط والاستراتيجيات.
- آخر تحديث :
التعليقات