بعد فترة من الهدوء النسبي والحديث عن خريطة طريق لحل القضية الكردية في تركيا،عاد التصعيد ليكون سيد الموقف بين تركيا وأكرادها، فبعد عملية هكاري التي نفذها حزب العمال الكردستاني باتت أخبار المواجهات بين الجيش التركي ومقاتلي الحزب تحتل واجهة وسائل الإعلام التركية.

فور وقوع عملية هكاري وجه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان أصبع الاتهام إلى الخارج، مشير ا إلى ان وراء الهجوم ( أيدي أجنبية خفية تستهدف النيل من استقرار تركيا وازدهارها اقتصاديا وزيادة ثقلها إقليميا ) تصريح خصص له الاعلام التركي الكثير من التحليلات التي وجهت أصبع الاتهام نحو سوريا وإيران وإسرائيل، إذ ثمة قناعة تركية بأن النظام السوري وعلى خلفية موقف تركيا الداعم للانتفاضة السورية واحتضان المعارضة السورية ولاسيما حركة الإخوان المسلمين بأنه يسعى إلى استنفار ورقةpkk ضد حكومة اردوغان على أمل دفعها إلى تغير موقفها من ما يجري في سوريا. في حين إيران وعلى الرغم من التعاون الأمني بينها وبين تركيا ضد حزب العمال الكردستاني بفرعيه التركي pkk والإيرانيpjk تبدو منزعجة بشدة من تعاظم الدور التركي في المنطقة، ومن موافقة أنقرة على نشر الدرع الصاروخية الأطلسية على أراضيها، وعليه تعتقد أنقرة بأن إيران ليست بعيدة عن استخدام ورقة pkk لإشغال تركيا بمشكلاتها الداخلية والحد من تعاظم دورها على خلفية التنافس التاريخي بين الدولتين، كذلك الأمر بالنسبة لإسرائيل التي تفاقمت خلافاتها مع تركيا وإسرائيل في السنوات الأخيرة،حيث تقول أنقرة ان تل أبيب باتت منخرطة بقوة في دعمpkk أمنيا وعسكريا.

في مقابل هذه التحليلات التركية والتي تتلخص بأن حزب العمال الكردستاني ليس سوى ورقة إقليمية بيد هذه الدولة أو تلك حيث سبق وان اتهمت تركيا كل من اليونان وقبرص وأرمينيا وحتى روسيا بمثل هذه الاتهامات، فان حزب العمال الكردستاني يرى ان السياسة التركية هذه ليست سوى وسيلة للهروب إلى الأمام في تعبير عن سياسة الإنكار والإقصاء التي اتبعتها الحكومات التركية المتتالية منذ عهد كمال أتاتورك، وان اردوغان نفسه الذي طرح خريطة طريق لحل المشكلة الكردية تراجع عنها تحت وطأة الدوافع الانتخابية على الرغم من تقديم الحزب المزيد من التنازلات، بدءا من التراجع عن مطلب إقامة دولة كردية ومن ثم الكونفيدرالية، فالفيدرالية وصولا إلى المطالبة بحكم إداري، فضلا عن رفض الحكومة التركية الهدن التي أعلنها أو الحوار معه والاعتراف به، وأمام كل هذا فان الحزب لا يجد أمامه من خيار سوى العنف لفرض نفسه على طاولة الحل السياسي مهما كان الثمن، وهو في تطلعه هذا لا يتوانى بدوره عن الاستفادة من التناقضات والصراعات الإقليمية ولاسيما ان الدول التي يتواجد فيها الأكراد غالبا ما تتفق على وأد الحلم الكردي بإقامة دولة قومية في المنطقة، في الوقت الذي يرى الأكراد والذين يزيد عددهم عن ثلاثين مليون نسمة في المنطقة أنهم الوحيدون بهذا الوضع من بين شعوب المنطقة من دون دولة قومية خاصة بهم.

في الواقع، تبدو السياسة التركية في محنة حقيقية بشأن خياراتها تجاه القضية الكردية، وهي محنة لها علاقة بالأيديولوجية القومية التي انكرت الهوية القومية للاكراد وصنفتهم رسميا بأتراك الجبال، وهو ما أسس لحالة من الانشقاق القومي الكردي، لينتج كل ذلك عبر التاريخ الطويل صراع مغمس بالدم والبارود.

محنة السياسة التركية هذه تكمن في أنها غير قادرة على الخروج من الأسس التقليدية التي بنيت على سياسة إنكار الحالة القومية الكردية، فهي تبدو أسيرة الأيديولوجية القومية التركية الضيقة العاجزة عن إدراك فهم دور المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في حياة الشعوب والتي تعبر عن وعي الشعوب بحريتها وحقها في هويتها ومصيرها. ولعل ما يزيد من هذه المحنة قتامة هو القناعة التركية الدفينة باستحالة إيجاد حل للقضية الكردية بالطرق العسكرية التي تنتهجها وهو ما يكلف البلاد المليارات سنويا، فضلا عن تزايد الخسائر البشرية في ظل العمليات النوعية التي يقوم بها حزب العمال الكردستاني في الفترة الأخيرة، وعليه فان التصعيد التركي ndash; الكردي مع عملية هكاري ليس سوى جولة من جولات العنف المتجددة والتي يبحث فيها كل طرف عن تحسين موقعه في الصراع.

في الواقع، يمكن القول ان مشكلة الحل السلمي للقضية الكردية تتخلص في قضية جوهرية هي : غياب رؤية واضحة وإرادة حقيقة للحل، فتركيا تتحدث عن انفتاح دون ان تقترب من حقيقة المشكلة، أو ان تحدد مع من ستحاور، وهي تدرك في العمق ان لا محاور فعليا بين أكراد تركيا سوى حزب العمال الذي يكاد هو الحزب الوحيد بين أكراد تركيا وذلك عكس أكراد العراق حيث هناك مجموعة من الاحزاب التي تتنافس على الحياة السياسية، في المقابل فان حزب العمال الكردستاني لا يطرح مطالب محددة وواضحة، بل يمزج بين مطالب الاعتراف بالهوية الكردية وحق تقرير المصير، وهو مزج مقصود يثير الكثير من الحساسية التركية.

بغض النظر عن هذه العوامل وغياب الثقة بين الجانبين فان التجربة التاريخية تخبرنا وتؤكد في نفس الوقت أن لا شيء يدفع بالكردي إلى النزول من الجبل وترك السلاح دون سبب أو ضمانات بحل سلمي لقضيته، معادلة ربما تبحث عن قرار تاريخي بحل سلمي لهذه المشكلة، حل يحقق الهوية للاكراد والاستقرار لتركيا. انه التحدي القادم بوجه القيادة التركية التي تستعد لوضع دستور جديد للبلاد

* كاتب سوري مهتم بالشأن التركي