في الأدبيات المعاصرة جميعها تقريبا، التي تتحدث عن دولة القانون والمواطنة، تؤكد على عدم تدخل السياسة في الجيش وعدم تدخل الجيش في السياسة. لكن مع كل هذا يبقى هنالك لتجارب الحياة خصوصيات تفرض نفسها على الباحث والمهتم وعلى المواطن في أي بلد في العالم، أثار مقالي السابق حول الانشقاق في الجيش السوري تجنبا لقتل المتظاهرين السلميين والموقف منه، ردود افعال منها ما أتى تعليقا على المقال، ومنها ما أتاني عبر الايميل، هنالك تعليقات تبقى في اطار التشبيح، وهنالك تعليقات حتى لو كانت من جهات موالية للنظام السوري، إلا أنها تستحق الاحترام لأن فيها من الأسئلة ولو كانت اتهامية ما يستحق الوقوف عنده، أما الاتهامات بالطائفية والعمالة للخارج، فهذه نكتة لم أعد معني في الرد عليها، حيث كان آخرها، ماتناقلته وسائل إعلام النظام السوري المرئي والمسموع والمكتوب، خبر تقاضي مجموعة من المعارضين السوريين رواتب من أمريكا بعدما تم تجنيدهم، وأنا كنت من هؤلاء، لكن من صاغ الخبر، لايعرف أنني قبل عام 2000 كما يشير الخبر كنت سجينا يساريا في سورية. أعتقد أن نظاما يعلب بمثل هذه الأوراق، لتشويه سمعة المعارضين، لن يترك ولن يسمح ابدا بتحييد مؤسسة الجيش، لهذا سأعود لمناقشة هذه المسألة احتراما للسادة القراء الذي علقوا وطرحوا أسئلتهم، من المتعارف عليه والبديهي جدا، أن البعث منذ مجيئه للسلطة، عبر انقلاب من الجيش كان واعيا لقضية أن من يستولي على الجيش، يمسك البلد، هذا اضافة إلى أن هذا الجيش يجب أن يصبح بعثيا، هكذا بدون أن يمارس هذا النظام التقية في هذا الأمر، وبعد استيلاء الجيش على الحكم عام 1963 تحت شعار البعث والناصرية، انتقلت اللعبة في تسيس الجيش إلى تسيسه تبعا لتيارات الانقلابيين من جهة، وتبعا للطامحين الفرديين إلى السلطة، ومنهم كان حافظ الأسد، مر الجيش بثلاث مراحل منذ ما يسمى بثورة آذار، تصفيته أولا من الناصريين وكافة التيارات الأخرى، ثم تصفيته من البعثيين اليمينيين ما يسمى جماعة القيادة القومية، في حالة من الاستبدالية، سنعرج عليها لاحقا، حيث تفاجأ الشعب السوري قبل نكسة حزيران أن معظم قادة الجيش ينتمون للأقليات السورية، ولكن كان للضباط المنحدرين من الطائفة العلوية الحضور الأكبر، وهذا ما تم تثبيته بعد الهزيمة حيث نشأ خلاف على السلطة بين تيار حافظ الأسد وبين تيار ما يسمى بحركة 23 شباط، ظاهره سياسي وحقيقته أن الأسد فاجأ الرفاق الشباطيين أنه قد احكم سيطرته على الجيش، بضباط موثوقين فيهم من كل الطوائف ولكن الكم الأكبر والنوعي العسكري والأمني هم من الضباط المقربين جدا من الأسد، والمنحدرين من الطائفة العلوية، فاصبحت الان مهمة الأسد تعزيز قبضته على الجيش، فماكان منه إلا أن بدأ حتى قبل أن يعلن عن انقلابه التصحيحي عام 1970 عن ايجاد معايير خاصة به لاحكام هذه السيطرة، فماكان منه إلا أن استخدم المعيار الولائي المنبثق عنquot; السجل الأمني لكل ضابط مترافقا مع شهادة ميلادهquot; من هنا تم ما يمكننا تسميته العلونة الأسدية الجيش، والعلونة الأسدية لا تعني ابدا ان كل ضابط علوي هو ناجح في هذا المعيار الأسدي بل يجب ان يكون معظم من ينجح ولائيا علويين!! واكيد كان هنالك ممن نجحوا من طوائف أخرى، لكن مؤسسات الأمن وقيادات الفرق المهمة ومعاونيهم كانوا خلال فترة السبعينيات جلهم من أبناء الطائفة العلوية، وكلنا يذكر تلك الكوكبة التي لعلعت أسماءها كقادة وحدات عسكرية وأمنية، في المجد الأسدي السوري...كان هنالك فرقتان رئيسيتان حول دمشق الأولى في الكسوة والثالثة في القطيفة، وهما حتى تلك اللحظة يشكلان عماد الجيش السوري، وتشكلت إلى جانبها ماعرف بالوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر، وتم توسيع سرايا الدفاع لتتحول إلى جيش آخر يحيط بدمشق بزعامة رفعت الأسد. وعلى الصعيد الأمني مسك ملف الاستخبارات في البلد ثلاث ضباط هم محمد ناصيف وعلي دوبا ومحمد الخولي. وباتوا أيضا يطبقون نفس المعيار الأسدي على مرءوسيهم من الضباط وصف الضباط حتى. فنشأت هيكيلة جديدة للجيش الولاء فيها للأسد ثم للبعث..هذا المعيار الولائي( الامني- الطائفي) أخذ بالتراكم الفعلي والمؤسسي طيلة تلك العقود الاربعة فماذا كانت النتيجة؟ هي قدرة هذا الجيش الآن على التماسك من جهة وقدرة ثقافته التي اشبع بها على مدار تلك العقود من قتل ابناء بلده بدم بارد. بالطبع هنا لايمكن ان يكون هذا القتل تبعا لثقافة عقيدية دينية، بل وفقا لتصعيد هذه الثقافة وتأسيسها بناء على معايير الأسد. ولو لم يكن الأسد وهؤلاء الأشخاص ينتمون للطائفة العلوية، لكانوا فعلوا تقريبا نفس مافعلوه حتى ولو كانوا مسيحيين أو سنة أو أكراد.. ولكن هل يتحمل الشعب السوري مسؤولية أنهم تعاملوا مع الموضوع بنفس طائفي، لكونهم يعتبرون أنهم ينحدرون من أقلية؟ ماعلاقة الشعب السوري حتى يدفع هذا الثمن؟

ولمجرد أن تفتح هذا الملف لكي يعرف العالم لماذا لم ينشق الجيش السوري كحال اليمن وليبيا مثلا، ولم يتخذ موقفا ضد قتل ابناء بلده كحال تونس ومصر؟ ما قام به حافظ الأسد هو استخدام المعطى الموضوعي وهو وجود الطائفة العلوية كأقلية طائفية من اجل أن يعزز سلطته الديكتاتورية، فهل سيبقى الشعب السوري يتحمل وزر هذا المعطى الذي تحول إلى معطى ذاتي سلطوي؟ وللذين يتصيدون بالماء العكر أقول أنني اعلنت وكتبت أكثر من مرة وبأكثر من مناسبة، أنني ضد حل الجيش هذا، وضد معاقبة أي ضابط أو محاولة جر مجموعة ضباط منه بحجة تلوث أياديهم بدماء الشعب السوري، أليس هذا ما يقوله بعض المعارضين الذين يريدون الحوار مع النظام، إنهم مع محاكمة من تلوثت أيديهم بدماء السوريين، وعلى نفس النظام أن يحاكمهم!!!كيف؟ بل يجب التحدث فقط عن صاحب القرار الأول في سورية بقتل الناس، وتحمليهم المسؤولية الأولى والأخيرة. حتى رؤساء الشعب الأمنية، ليسوا اصحاب قرار في القتل، هم أحيانا أو بعض منهم يتفنن في تنفيذ القرار ولكن من يقتل هو صاحب الأمر والنهي فقط. إذا أردنا أن نتحدث سياسة.

لهذا يمكن اختصار مسيرة الجيش السوري منذ عام 1963 لحظة تسيسه بعثيا إلى مستقره حيث اصبح جيش السياسة الأسدية 2011. وهم أنفسهم يطلقون عليه جيش الأسد، حتى شعاراتهم الصباحية تهتف للأسد.

لا احد من المعارضة يطالب بحل الجيش، فهل هؤلاء يمكن أن يفتوا بقتل ابناء هذا الجيش؟ أما قضية المنشقين بعد ثورتنا السورية الحرة النبيلة والكبيرة فقد عالجتها في المقال السابق وعلى المعارضة أن تتحمل مسؤولية ابعادهم عن خطر الموت المحقق. لهذا ببساطة لم تعد تنطبق على هذا الجيش تسميته بجيش وطني أو لاوطني، بل هو جيش آل الأسد هذا هو الأمر باختصار شديد. لاتضحكوا على أنفسكم بشعارات الوطنية وغير الوطنية، لأن كلا المعيارين لاينطبق على هذا الجيش.سلمية الثورة ومدنيتها التحررية ونجاحها هي الضامن لسورية، وليس آل الأسد، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والسياسية ويدعم خيار شعبنا هذا وهو لايعدم الوسائل في ذلك.