تسع سنوات من الإحتلال وهاهو الجيش الأمريكي يهم بالإنسحاب، يجر وراءه تجربة مريرة عانى فيها ما عانى، وخلف وراءه مصائب ودماء ودموع وأحلام صغيرة لشعب مسكين تكسرت تحت أقدام جنود لايفهمون إلا لغة العنف والقتل. لقد أعلن السيد باراك أوباما العام 2011 كنهاية للحرب في العراق بعد خروج آخر جندي أمريكي من البلاد، ولكن هي النهاية بالنسبة للأمريكان فقط ولايعلم أحد أن كانت الحرب ستنتهي بالنسبة للعراقيين أيضا ً، أو ربما ستبدأ حرب من نوع آخر. فالإرهاب لايترك هذا الشعب بحاله مادامت هناك أجندات خارجية تعمل ليل نهار لينهار كل شيئ. تسع سنوات من الإحتلال ومن حقنا أن نسئل: من الرابح ومن الخاسر في هذه التجربة المريرة.

سأجزم مقدما ً، وبلا تردد ومن دون الرجوع لأدلة مادية لأكون موضوعيا ً وعلميا، بل ساكون رومانسيا ً في وصفي لذلك إنطلاقا ً من تجرتي الذاتية، بأن الشعب العراقي، هو الخاسر الأكبر في هذه المعادلة التي فرضت عليه. ولكن، هذا لايعني بأن الشعب العراقي فقط هو الخاسر الوحيد في هذه التجربة، بل الأمريكان كانوا خاسرين أيضا ً بفشل تجرتهم التي كلفتهم الكثير من الدماء والأموال. قد يقول قائل لقد ربح الشعب العراقي ربما شيئا ً واحدا ً وهو الخلاص من الدكتاتور بمساعدة الأمريكان. نعم، ربما ذلك صحيح إلى حد ما، ولكن هل كان الدكتاتور يساوي مليون ونصف إنسان عراقي، بالطبع عدا الأيتام والأرامل؟ هل كان الدكتاتور يستحق أن نرهن مستقبل العراق من أجل الإطاحة به وهو مهدد بالتقسيم الآن؟ هل كانت هناك طريقة أقل تكلفة في التخلص من الدكتاتور؟ بالنسبة لي كانت هناك أكثر من طريقة للتخلص من الدكتاتور بلا حرب، وهو ماكان يساوي حتى شعس نعل لطفل عراقي فقد أباه في هذه المأساة. لقد كان هناك من يظن بأن الدكتاتور كان سيبقى أمدا ً طويلا ً وإنه سيورثها لأكبر أولاده. لقد هللوا وصفقوا ورحبوا، ودقوا طبول الحرب قبل الأمريكان. لقد كانت نظرتهم رومانسية بعيدة عن الواقع، بل مصابين بقصر نظر وقلة خبرة. إنهم لم يعتبروا من التاريخ ولاحتى كانوا يقرأونه. وهاهم الآن أمام جيل من السياسيين يخٌرج بين الليلة وضحاها دكتاتور أو إرهابي أو سارق لأموال الشعب.

إذن، الشعب العراقي هو الخاسر الأكبر، ولكن، من هو الرابح في هذه المعادلة؟ لقد ربح الكثيرون من هذه المعادلة ومنهم من خطط لها بدقة متناهية لتنتهي بهذا الشكل. فجيران العراق هم الرابح الأكبر في ذلك. فإيران تخلصت من عدو قديم ومهدت لقدوم الأمريكان لتلقنهم درسا ً في السياسة لن ينسوه أبدا ً. أن تغيير المعادلة الطائفية لصالح إيران كان العصفور الثاني الذي أصابته بنفس الحجر الذي رمته. الكويت هي من الرابحين طبعا ً بعد أن ثأرت لنفسها من سفاح كانت تطلب دمه. تركيا اليوم هي سعيدة بالتغيير في علاقات تجارية تنعش إقتصادها ومجاورتها لبلد ضعيف يزور جنودها شماله أنى شائوا. أما الشعوب العربية الأخرى فهي ربحت بالتأكيد بعد أن تعلمت جيدا ً دروسا ً في تجاوز الحروب وإمكانية تفادي حروب طائفية. لقد كان سقوط النظام مدويا ً لدرجة أن عصف ذلك السقوط حرك رياح التغيير بعد أن انهارت قلعة من قلاع الإستبداد بصبغة قومية. لقد انهارت معه روح التسلط والكبرياء القومي المزيف، وزالت بزواله أنظمة كانت تنتهج نفس المنهج وتستخدم نفس الأسلوب في طرق السيطرة على معنى التحرر في نفوس أبناء الشعب. من المؤسف أن تجربة العراق الديمقراطية لم تكن ملهمة بالقدر الكافي لشعوب المنطقة لأنها لم تتكون بالشكل الصحيح وبالطرق المنطقية. لكن، وبالرغم من ذلك، كان تعثر تلك التجربة وفشل جزء كبير منها ملهما ً لشعوب المنطقة لتجاوز أخطاء التحولات الكبيرة التي تجري في أماكن عديدة في المنطقة.

لقد ربح الكثيرون ومنهم الأمريكان أيضا ً حين تعلموا درسا ً من تدخلهم في شؤون الآخرين فنأوا بأنفسهم جانبا ً عما يحدث في ليبيا ليتصدر المشهد حلف الناتو بقيادة فرنسا مستفيدة ً من إرثها الإستعماري الطويل في التعامل مع الشعوب العربية. أذن، لم يكن هناك رابح وخاسر واحد، بل رابحين وخاسرين لكن أخسرهم هو الشعب العراقي الذي خرج من المولد بلا حمص على حد قول المثل المصري. أن الشيئ الوحيد الذي ربما لم يتعلم منه العراقيون من هذه التجربة المريرة هو أن المشكلة لم تكن وحدها في النظام الدكتاتوري السبق، بل هي في ثقافتنا التي تنتج الدكتاتور وتصفق له وتكتب بمدحه القصائد الطوال. لقد أصبحت الثقافة العراقية في مواجهة نفسها بعد سقوط النظام السابق. لقد أستمر الظلم والفقر والجوع والسرقة والفساد حتى بعد سقوط الدكتاتور، بل صار أسوء وأفضع. هذا إن دل على شيئ فإنه يدل على أن النظام السبق كان جزء من منظومة ثقافية تنتج أنساقا ً من الإستبداد والتسلط وبجميع المستويات، اجتماعيا ً وسياسيا ً وثقافيا ً.

على الشعب العراقي، وبالخصوص مثقفيه، الإستفادة من هذه التجربة الفريدة في عملية إصلاح ثقافي من خلال مشروع ثقافي يعيد النظر بكل القيم التي تنتج الإستبداد. لابد من مراجعة شاملة لثقافتنا ونقدها من خلال الدراسات العلمية الأكاديمية ومن خلال النتاج الثقافي والأدبي من كتابة وفن تشكيلي ودراما وغير ذلك. لابد من منظومة ثقافية جديدة تنسجم مع مبادئ الديمقراطية والحرية والمساواة تحت مظلة مفهوم المواطنة في أجواء التسامح وقبول الآخر المختلف بالعرق والدين. أن العراقي جدير بهذا التغيير بعد سنوات الظلم والإضطهاد وسنوات الإحتلال والإرهاب الذي لاينتهي إلا أذا تغيرت ثقافة الإستبداد.


[email protected]