القلب المجروح، والعين الدامعة.. ترجمة لصدى السنين المتهرئة من طعنات سكين الخيبة... صيحات ذلك الماضي مازالت تلاحقني.. لماذا لاتغادرني ذكرى تلك الأيام وتدعني بسلام، لماذا يجب عليّ تسديد فواتيرها للأبد كجزء من تبعات ذلك القدر الذي إجتاحني وتلاعب بي رغما عني؟


كانت إمرأة الحلم.. خُلقت لتعشق من قبل رجل مجنون من أمثالي مسكون بعبادة المرأة، وكانت عنوانا للانوثة الخرافية الحارقة، تجسد فيها كل شياطين الإغراء والجاذبية ونداء الشهوة المتفجرة منها، كان جسدها يصرخ بالعربدة والتمرد وخلق اللحظات المجنونة في عتمة الظلام وسكون روتين الحياة !

كنت أُلاحقها في شوارع بغداد، أتطلع اليها، أتعبد في حضرة جمالها، وأتضرع امام عليائه الشامخ، وأتيه، وأغرق في ملكوت ذاك الجمال الفاتن، أذوب وأتلاشى وأتماهى مع اهتزازات جسدها وتمايله، كم عذبني شعرها وهو ينهال على وجهها، فتضطر بحركة من رأسها إعادته الى مكانه السابق فتقتلع روحي مع تطايره للأعلى مصحوبا بذلك الغنج المزلزل.

آه.. كتفاها المكتنزان شعلا الحرائق في روحي، و براكين شهوة إحتضانهما والإلتحام بها، وإرتشاف رحيق شفتيها، وتحسس تنهداتها وإرتفاع وهبوط صدرها والرحيل معا في غيبوبة صوفية اللذة... كان كل شيء فيها فاتن وساحر وشهي ينقلني الى عوالم العشق الاسطوية.

بعد كل مرة أراها.. كنت أشعر ان جمالها يطعنني بقساوة ويجرح روحي بعنف، ويسفك عذابات لوعتها وأشواقها وحنينها للإلتحام والذوبان في مغامرة عشق مجنون.. بعد كل مرة أراها أبدأ بالنحيب والبكاء الداخلي، وأتهاوي وانهار من الداخل، كانت بعيدة جدا عني، وكنت أحبها لدرجة العذاب.


عشت الخيال والحلم والأسطورة وكل مراحل جنون العشاق، وأصبحت الحياة بالنسبة لي سحرا خرافيا لايصدق وأنا أراها أمامي.. كانت إمراة من برج النار والعذاب والفتنة... كان كل شيء فيها يخطفني ويقذف بي الى أعالي فضاءات الدهشة والهيام وعذابات المشاعر المتناقضة ما بين الفرح والخوف، والسعادة والحزن، والثقة المطلقة التي ترفعها الى مصاف الملائكة والشك والهلع من فقدانها... كنت مثل أي عاشق حقيقي لاأملك نفسي.

لاتقولوا لي أن الحب سمو ورفعة وشموخ... فهذه الكلمات الإنشائية لم يكن لها حضور في قصتي، فقد كنت كلما أراها أتعرض الى زلازل وبراكين وعواصف... كنت أهتز بعنف أمامها وأتلاشى وأضمحل وتبتعلني ألارض، كانت إمرأة قادمة من جحيم الجاذبية والشهوة والإغواء... وكنت أنا ضحية ذاك القدر المجنون.

كدت أدمرها معي في لحظة حماقة لاتغتفر..يوم ذهبت الى كليتها أحوم حولها مثل طائر مذبوح يوشك ان يتهاوى على الأرض.. لم تكن معرفتي ببغداد جيدة انا القادم اليها من كربلاء، وعندما سألت أحد الأشخاص عن عنوان كلية القانون والسياسة فاجأني بطلب هويتي بخشونة ثم إقتادني الى غرفة داخل الكلية، كانوا مجموعة من الرجال الذين تخطت أعمارهم سن الدراسة الجامعية يحملون المسدسات وبدت على لهجتهم انهم من مدينة تكريت مسقط رأس المجرم المقبور صدام حسين، وكانت هذه المرة الأولى في حياتي التي أخضع فيها للتحقيق من قبل أجهزة الأمن، وقياسا لوحشية أجهزة النظام كان التحقيق مقبولا اذ لم أتعرض للضرب أو الشتم، سألوني سؤالا محددا: لماذا انت تسأل عن كلية القانون والسياسية؟.. ولم يطلقوا سراحي إلا بعد ان عرفوا سبب تجوالي حول الكلية يرجع الى انني أنتظر إحدى الطالبات التي ما ان تلفظت بإسمها حتى بادرني أحدهم قائلا: أليست هي صاحبة الشعر الطويل؟ فأدركت انه أحد المعجبين بها.

لم أكن أعلم في تلك الفترة ان المقبور قصي بن صدام حسين كان طالبا في كلية القانون والسياسة، وان المكان يخضع لحماية مشددة، وسوء حظي قادني الى سؤال أحد أفراد الحماية عنه !

بقيت أراقبها من بعيد وانا أتوقع تعرضها للإستجواب أو الخطف بعد أنأخبرتهم انني أحبها، لاأدري في حينها لماذا لم أنفجر بشكل تلقائي منتحرا بسبب الخوف والهلع عليها، والشعور بالذنب، مضت عدة أيام وكانت حركتها وملامحها طبيعية، ومضت عدة أسابيع وشهور.. ولم يطرأ عليها أي تغيير.. فأيقنت ان القدر تلطف بي وبها وغضوا الطرف عن الموضوع أو لديهم من هي أجمل منها، في عهد نظام المجرم الطاغية كن نساء العراق غنائم وسبايا لدى صدام وأولاده وحاشيته، أي إمرأة تعجبهم يخطفونها من الشارع أو حضن زوجها ويغتصبونها!

في مقابل هذه الحادثة.. أتذكر سفرتي الى العاصمة الأميركية واشنطن، وكيف كنت أتجول حول مكتب الرئيس في البيت الأبيض بحرية تامة، ورأيت الاطفال يلعبون في الشارع بجوار الحرس بحيث تشعر انه فعلا بيت الشعب!

جاءني الحب وكان كل شيء ضدي.. لم أكن مستعداً له، ولاقادرا على إستقباله بما يليق به... تهت في دروبه، وضعتُ بين صفحات أسراره، ولم يكن بوسعي سؤال القدر لماذا أنا بالذات.. ولماذا في هذا العمر والوقت والظروف، كانت الحرب مشتعلة مع إيران، وكنت أعبر عن رفضي لها وإحتجاجي على الموت العبثي بالقراءة وسماع الموسيقى والأغاني، والبحث عن الحب، لم أكن أشعر بالإنتماء الوطني للعراق، خرج علينا في إحدى المرات المقبور عدي صدام حسين وقال: (( العراق دولة أبي )) كان الوطن ملكا لصدام وحاشيته، ولم نحصل منه إلا على الفقر والمعاناة والموت... فلماذا ندافع عنه ونموت من أجله؟!

ومثل كل حب من طرف واحد مستحيل.. لايتبقى منه غير أنين الذكريات والحنين وتجدد نزيف الروح، وسؤال حائر من دون جواب: لماذا الأقدار تتعامل بوحشية مع من يستحق بركاتها؟!


[email protected]