من بداية هذه السنة، اجتاحت العالم العربي موجة من الاضطرابات في اقطار عديدة قاربت الحروب الاهلية بانجرافها الى العنف، على الرغم من النوايا السلمية لكثيرين من الذين اطلقوا الحركات الاحتجاجية المطالبة بالاصلاح او باسقاط الانظمة القائمة. والواقع ان ما جرى ويجري في الاقطار العربية هو حروب اهلية باساليب مختلفة اشدها قسوة العنف الظاهر والعنف المستتر، وابرز ملامح انحدارها الى الاقتتال الاهلي المرير يتمثل في الحرب الاهلية اللبنانية المركّبة التي لم تنته بعد إلا باسلوبها، فهي قائمة بطرق مختلفة. ومن المؤسف ان الحروب الاهلية العربية، حتى في البلدان التي تبدو مستقرة من الظاهر، تعتمل في الباطن كالجمر تحت الرماد في وضع من laquo;السلام الخادعraquo;. وبالقاء نظرة على الحروب الاهلية التي جرت في بقية العالم، وعلى رأسها الحرب الاهلية الاميركية التي جرت في عهد الرئيس ابراهام لينكولن (1861 ـ 1865) بين الشمال الاتحادي والجنوب الانفصالي، والتي تميزت بقدر غير مسبوق من الوحشية والهمجية في العالم المعاصر، يتبين للناظر ان وقف الاقتتال والعنف لا يكفي لتحقيق السلام، طالما ان تربة الحرب الاهلية بقيت مهيأة وبذرتها قابلة للنمو.

كانت الحرب الاهلية الاميركية دامية وقاسية ومدمرة تسببت في مقتل 640،000 مواطن اميركي. وبحلول عام 1864 بلغت الحرب الاميركية ذروة في الوحشية والهمجية، حيث كان جنود الشمال الاتحادي يطاردون مقاتلي الجنوب الانفصالي كالحيوانات الهائمة، مما دفع هؤلاء في النتيجة الى التصرف كالحيوانات المفترسة. وقد بقي الكتاب والمفكرون زمناً طويلاً يكتبون عن قباحة ذلك النزاع الدامي علهم يستخرجون منه العبر الكفيلة بعدم تكراره. وقد كتب احدهم يقول: laquo;لم يعد الآن كافياً ان توقع بالعدو وترميه بالرصاص. تحدوك الدوافع الدفينة الى إذلاله، واحياناً الى سلخ جلدة رأسه. وحتى هذا لا يعود كافياً. تجدك تعري القتلى من ملابسهم وتخصيهم وتقطع اعضاءهم التناسلية. ومع مرور الوقت واستمرار النزاع، حتى هذا لا يعود كافياً. بعدها تقتلهم وتقطع رؤوسهم وتعلقها على الاعمدة. وهذا ايضاً لا يعود كافياً. تقوم تالياً بقطع آذانهم، وتشويه وجوههم، وبقر بطونهم. وليس امراً نادراً في الحضارة العالمية ان يقوم جانب او آخر، او الجانبان المتنازعان كلاهما، باعمال التعذيب ومراسم التشويه والتمثيل بالجثث. ومن التكتيكات المفضلة للمقاتلين نوع بربري يقوم على الشنق المتكرر للضحاياraquo;.

في التاسع من نيسان/ ابريل من عام 1865 قبل الجنرال لي قائد قوات الجنوب الانفصالي الاستسلام بشروط الجنرال غرانت قائد قوات الشمال الاتحادي المنتصر. وشكلت شروط الاستسلام تلك افتراقاً تاريخياً عما كان دارجاً في الحروب القديمة حيث كانت تنتهي التمردات الفاشلة بمزيد من سفك الدماء على سبيل العقاب والانتقام. فقد قضت شروط الاستسلام تلك بأن يعود افراد الجيش المهزوم الى بلداتهم وبيوتهم ومعهم خيولهم وامتعتهم. وأكدت السلطات الاميركية لقادة وجنود الجيش الجنوبي المهزوم بأن حكومة الولايات المتحدة لن تزعجهم او تضايقهم، طالما التزموا بشروط وقوانين العفو.

والحقيقة ان احداً من جنود الجيش الجنوبي المهزوم لم يُعلق او يُشنق كما كان يجري في حروب اخرى، بل اديت لهم التحية العسكرية، وسرحوا مكرمين معززين، فلم يتعرض واحد منهم للاذلال، او الاهانة، او الضرب، بل تم توديعهم بالعناق والبكاء.

ان هذا السلام الكريم والسخي الذي اراده الرئيس لينكولن، وهو من أمر بشن تلك الحرب الطاحنة ضد الانفصال الجنوبي، توخى من خلاله ان يقيم أميركا جديدة. وكان يدرك ان إقامة اميركا جديدة موحدة ومتنوعة وديموقراطية، لا تتم بالانتقام بل بالمكارم والتطلع الى الامام. اراد الرئيس لينكولن ان يشعر اهل الجنوب بأنهم مواطنون كاملو الحقوق، وبذلك اظهر شفقة واحساناً ملحوظين نحو الكونفيديرالية المنهزمة، من اجل دمج الجنوب بالاتحاد، والوصول الى امة قوية عبر اميركا اكثر واعمق اتحاداً.

والعبرة هنا ليست في امتشاق السلاح او الدوافع الى حمل السلاح، بل في القاء السلاح ومعرفة الاسباب الموجبة لذلك. وللمراقب العربي الذي يشاهد الحرب الاهلية في اليمن وفي ليبيا وفي غيرهما من الاقطار العربية ان يسأل نفسه: هل يستطيع العالم العربي ان ينهي حروبه الاهلية من دون مزيد من القتل والعنف وعدم الاستقرار؟

نعم، هذا ممكن اذا توفرت للعالم العربي قيادات تاريخية مثل قيادة لينكولن يكون همها انقاذ الامة والسير بها الى المصالحات الوطنية العزيزة والكريمة.

الدكتور عودة ابو ردينة، اميركي من أصل عربي، متخصص في شوؤن الشرق الاوسط وسياسات دوله، وله مساهمات كتابية عدة في المجالات الاقتصادية والمالية والمصرفية والنفطية، وهو يقيم في واشنطن. وهذا المقال تنشره quot;ايلافquot; بإتفاق خاص مع quot; الديبلوماسيquot; التقرير الذي يصدره شهرياً من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله ndash; عدد تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١١- المجلد