دخلت قضية الاعتراف بمجازر الأرمن التي ارتكبتها الدولة العثمانية قبل نحو قرن (تقدر المصادر الأرمينية عدد الأرمن الذين قتلوا في هذه المجازر بمليون ونصف المليون نسمة فيما تقدر المصادر التركية هذا العدد بـ 300 ألف نسمة ومثلهم من الأتراك) مرحلة جديدة في السنوات الأخيرة إذ يرى المتابع ان هذه القضية تحولت إلى أجندة برلمانات العديد من الدول الأوروبية والأمريكية وفي الوقت نفسه تحولت إلى مشكلة متجددة في العلاقات التركية مع هذه الدول كما هو حال الأزمة الجارية حاليا بين فرنسا وتركيا بعد ان صوت البرلمان الفرنسي لصالح قانون تجريم كل من ينفي حصول الإبادة الأرمينية بعد ان أقر البرلمان الفرنسي عام 2000 قانونا يقر بحصول الإبادة حيث تبدو العلاقات بين الجانبين أمام أزمة على الرغم من حرص القيادتين على لملمتها بعد ان شهدت العلاقات بين الجانبين تقاربا على خلفية الأزمة السورية.
في الواقع،إذا كان من مؤشر على حضور مسألة الاعتراف بالإبادة الأرمينية بقوة في سياسات الدول الغربية فانه يدل على نجاح جهود اللوبيات الأرمينية خلال العقدين الماضيين في إقناع برلمانات الدول الغربية بإقرار قوانين تقر بحصول الابادة، وفي مقابل هذا النجاح الأرميني تشعر أنقرة بالقلق من ان تتحول مسألة الاعتراف بمجازر الأرمن إلى مدخل سياسي يقود لاحقا إلى مراجعة بعض الاتفاقيات الدولية التي تم التوصل إليها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ولاسيما اتفاقية سيفر عام 1920 التي أقرت للأرمن والأكراد بكيانات مستقلة في تركيا وهو الأمر الذي ترفضه أنقرة بالمطلق.
أنقرة التي ترى نفسها محشورة في زاوية صعبة أمام هذه الحملة المركبة والموجهة إلى تاريخها تتلخص ردود فعلها حتى الآن في التهديد بفرض عقوبات على الدول التي تعترف بحصول الإبادة وحرمانها من الصفقات الاقتصادية والعسكرية معها.. وفي الحالة الفرنسية التهديد بإقرار قانون مماثل بشأن ما ارتكبته فرنسا من مجازر في أفريقيا خلال القرن الماضي ولاسيما في الجزائر.. فضلا عن حالة من التعبئة الداخلية ضد مصالح وسفارات الدول التي تعترف بالإبادة، الا ان من يراقب المواقف السياسية التركية وتحديدا مواقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردغاون الطامح إلى منصب رئاسة الجمهورية خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة.. سيرى بأننا أمام نوع من المهادنة ومحاولة امتصاص الحملة وتمرير الأمور بأقل الخسائر وذلك لحسابات داخلية أولا. وثانيا لتفويت الفرصة على بعض القوى والدول الأوروبية التي تسعى جاهدة إلى وضع عقبات جديدة في طريق المساعي التركية للانضمام إلى العضوية الأوروبية، كما سيكتشف أيضا بأن ثمة قناعة بدأت تتكون تدريجيا لدى الأوساط التركية مفادها ان أسلوب الإنكار والنفي لم يعد مجديا أمام النجاحات التي تحققها اللوبيات الأرمينية،وبالتالي لا بد من التفكير بأسلوب جديد لمواجهة الأمر من خلال إدراج المسألة في سياق الاحداث المؤسفة التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى دون تحميل تركيا الحالية المسؤولية المباشرة، والحرص على القول ان ما جرى كان بسبب تعامل بعض الأرمن مع روسيا على جبهة الحرب مع تركيا، ولعل هذا ما يفسر توجه أنقرة إلى تشكل لجنة تركية ndash; أرمينية من كبار المؤرخين قبل فترة للتوصل إلى ما هو مفيد لصالح الجانبين، وفي الوقت نفسه السعي لدفع يريفان إلى وقف حملتها في الخارج والبدء بصفحة جديدة بينهما من شأنها طوي صفحة المجازر التي حصلت.. الا ان المراقب سيرى ذكاء تعامل يريفان مع الأسلوب التركي هذا، فهي من جهة تؤكد حرصها على تحسين العلاقات مع أنقرة ولكنها في الوقت نفسه تصعد من حملتها في الخارج خاصة في ضوء إحساسها بأن هذه الحملة بدأت تعطي ثمارها وتحاصر تركيا في سياستها الخارجية وعلاقاتها الأوروبية.
تركيا التي لا تملك الشجاعة الكافية للاعتراف بوقوع هذه المجازر تخشى في العمق من ان تتحول المسألة من مسألة الاعتراف بالمجازر إلى مسألة سياسية مفتوحة على التاريخ والجغرافية.. تركيا هذه تعتقد أنها تمتلك من أوراق القوة بما يكفي لدفع العواصم الغربية بما في ذلك باريس وحتى واشنطن (اعترفت قبل سنتين بحصول المجازر) لإعادة النظر في مسلسل الاعتراف بالمجازر التي ارتكبت ضد الأرمن وذلك انطلاقا من علاقتها المتينة مع الولايات المتحدة وموقعها الاستراتيجي الهام في السياستين الأمريكية والأوروبية فضلا عن انتمائها لمنطقة تتميز بخصوصية حضارية.
في الواقع، إذا كانت قضية المجازر التي ارتكبت بحق الأرمن وغيرهم من الشعوب التي كانت تعيش في كنف الدولة العثمانية قضية محقة ينبغي التوقف عندها بما يؤدي إلى إعادة الكرامة للشعوب التي تعرضت للظلم والطغيان ومنع تكرار حصول مثل هذه المجازر تحت أية حجة أو شعار في الحاضر والمستقبل،فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بكيفية الاعتراف بهذه المجازر؟ وماذا يترتب عليها من تداعيات سياسية سواء في الداخل أو الخارج ؟ والأهم من يجرأ على الاعتراف بها بعيدا عن الحسابات السياسية الضيقة ؟
قبل أيام فاجأ رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الأتراك قبل العالم بتقديم اعتذار باسم الدولة عن مجرزة درسيم التي راحت ضحيتها حسب الاحصائيات الرسمية أكثر من 14 ألفا شخص فيما يقول الأكراد ان اعدادهم تجاوز سبعين ألفا بين عامي 1937 و1938 والتي جرت بأوامر مباشرة من الزعيم التركي التاريخي كمال أتاتورك نفسه،لكن ما يسجل هنا هو ان أعتراف اردوغان هذا لم يكن من باب فتح صفحة جديدة مع هذا التاريخ ومع الاكراد وقضيتهم بل من باب الصراع المتفاقم مع حزب الشعب الجمهوري المعارض بزعامة كمال كليجدار اوغلو والذي هو (الحزب) عمليا استمرار لحزب أتاتورك،إذ حمل اردوغان الحزب المذكور مسؤولية مجزرة ديرسيم في وقت يستخدم اردوغان نفسه الأسلوب الدموي نفسه مع الاكراد ويقصف مواقعهم بالطائرات ويستخدم القمع مع كل من يطالب بحقوق شرعية تجاوزتها ديمقراطيات العالم، ليبقى السؤال متى تتصالح تركيا الحالية مع تاريخها الدموي والذي كثيرا ما قورن بالاستعمار.