عندما طرحت تركيا نظرية صفر المشكلات لتكون أساسا لدبلوماسيتها وعلاقاتها مع دول الجوار الجغرافي قوبلت هذه السياسة بترحيب شديد من قبل هذه الدول لاعتقادها بأن تركيا التي كانت أيام الحرب الباردة مجرد قاعدة عسكرية أطلسية في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق ودول المنطقة.. قد غيرت من سياستها ودورها الوظيفي لصالح بناء علاقات إقليمية إيجابية تقوم على التعاون والتكامل والمصالح المشتركة من خلال إيجاد حل للقضايا الخلافية التي كانت تشوب هذه العلاقات، ويبدو ان هذه الدول وتحت وهج الفرح بعودة تركيا إلى دائرة الانتماء الحضاري والبنيان العام للمنطقة لم تدقق كثيرا في أبعاد التحرك التركي الجديد، فعلى الأقل لم تسأل كيف يمكن ان تكون تركيا دولة عضو في الناتو وفي الوقت نفسه صديقة لدول المنطقة؟ كيف يمكن ان تكون حليفة لأمريكا وفي الوقت نفسه مساندة للقضايا العربية والإسلامية ولاسيما فلسطين ؟ ربما هي الآماني والرغبات التي سبقت السياسة أملا بتركيا متصالحة ومتحالفة مع الجوار، من أرمينيا شرقا حيث العداء التاريخي مرورا بالعراق وسورية حيث مشكلات الأمن والحدود والمياه .. وصولا إلى اليونان حيث الصدام الثقافي والسياسي والحضاري والتاريخي في بحر ايجه وليس انتهاء بالمغرب العربي حيث تصاعد نفوذ حركات الإسلام السياسي، ولعل ما شجع الدول العربية والإسلامية على التقارب أكثر مع تركيا هو المتغير التركي الداخلي المتمثل في وصول حزب العدالة والتنمية حيث خطابه الإسلامي المعتدل ونجاحه في التأسيس لتجربة حكم مقبولة لجهة التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد والتي بسببها نجح العدالة والتنمية في السيطرة على الرئاسات الثلاثة (البرلمان ndash; الحكومة ndash; الجمهورية) فضلا عن خطواته الإصلاحية المدروسة والتي أفضت إلى تحجيم دور الجيش في الحياة السياسية التركية إلى حد كبير.
كل ما سبق وضع في خانة (القوة الناعمة) التي كانت أدواتها السياسة والاقتصاد والثقافة ومجالس تعاون وفتح الحدود وإلغاء سمات الدخول، وقد أعطت هذه السياسة فائض من القوة للدبلوماسية التركية التي نجحت في القيام بدور مهم في قضايا لبنان وفلسطين والمفاوضات بين سورية وإسرائيل والملف النووي الإيراني... وهو ما دفع البعض إلى القول ان تركيا عادت إلى مشرقيتها.
مع بدء ثورات الربيع العربي بدت الدبلوماسية التركية تنتهج نهجا مغايرا تماما، فمنظر سياستها الخارجية الوزير احمد داود أوغلو يقول ان تركيا تأخذ مكانها في البلوك الغربي، وهو في قوله هذا يجسد حقيقية تحول تركيا إلى القوة الخشنة،فعلى مستوى الداخل انتقلت من خارطة الطريق الكردية التي طرحها رئيس الوزراء رجب طيب ارودغان إلى تكثيف القصف البري والجوي لمعاقل الحركة الكردية، وعلى مستوى الخارج ركبت موجة الثورات العربية، وعليه شاركت في حملة الأطلسي على نظام القذافي، وتوترت علاقاتها من جديد مع سورية وتحولت إلى قوة ضاغطة على نظام الرئيس بشار الأسد بعد ان كان يخاطبه بالأخ والصديق قبل بدء الاحتجاجات في سورية بأسبوعين فقط، ومع إيران بدا التوتر هو سمة العلاقة مع موافقة أنقرة على نشر الدرع الصاروخية على أراضيها وتحديدا في المناطق الحدودية مع إيران وروسيا التي هي أكبر شريك تجاري لها. في الواقع، يمكن القول ان ما حققته الدبلوماسية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية تجاه منطقة الشرق الأوسط له علاقة بثلاثة قضايا أساسية:
الأولى: جملة المتغيرات الإقليمية التي نتجت عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وهي متغيرات غيرت العديد من المعادلات الإقليمية في المنطقة، استفادت منها الدبلوماسية التركية التي قدمت نفسها على أنها تقوم بدور الاطفائي.
الثانية: لها علاقة بالانكفاء الأمريكي إلى الداخل تحت وطأة أعباء الحرب في أفغانستان والعراق وصولا إلى الأزمة المالية المتفاقمة، وقد كان من نتائج هذا الانكفاء إعطاء واشنطن مساحة أكبر لأنقرة في القيام بدور إقليمي إزاء قضايا المنطقة.
الثالثة: تتعلق بالصدام الإعلامي مع إسرائيل منذ ما حصل بدافوس مع اردوغان في دافوس مرورا بسفن أسطول الحرية وليس انتهاء بتداعيات تقرير بالمر، وفي كل هذه المحطات كانت فلسطين هي العنوان فيما الجوهر هو الصراع على الدور الإقليمي.
الآن مع تبخر سياسة صفر المشكلات وتحولها إلى تعميق المشكلات أو صفر الثقة تبدو السياسة التركية دخلت مرحلة جديدة من التحول، تحول هو أشبه بالانقلاب على السياسة السابقة لجهة نظرية أوغلو عن العمق الاستراتيجي على شكل العودة من جديد لتكون تركيا محاطة بالأعداء بدلا من الأصدقاء، وما تفجر الحدث الكردي دمويا من جديد الا تعبيرا عن هذه العودة في لعبة الأوارق الإقليمية وكسر الارادات على المشهد الشرق الأوسطي في هذه اللحظة التاريخية التي تستبق انسحاب القوات الأمريكية من العراق.
تركيا في كل ذلك تنطلق من قناعة مفادها: ان المشاركة في عملية السيطرة على المناطق المتفجرة والحصول على جزء من المغانم أفضل من الوقوف في مقاعد المتفرجين، انه نزعة السيطرة التركية الممزوجة بعوامل التاريخ والدور والسياسة والمصالح والتطلعات.
* كاتب سوري مهتم بالشأن التركي
التعليقات