مع التطورات الجارية في العالم العربي، وما جرى لكردستان العراق وصولا إلى جنوب السودان والحديث هنا أو هناك عن الفيدرالية نموذجا للحكم، أزداد الجدل بين القوى السياسية في العالم العربي بشأن إقامة نظام فيدرالي ولاسيما في الدول التي فيها أكثر من قومية أو طائفة ودين، ولعل مصدر هذا الجدل المتصاعد هو اختلاف رؤية هذه القوى للفيدرالية كنظام ومفهوم سياسي حيث وصل هذا الاختلاف في كثير من جوانبه إلى درجة التناقض، ويمكن تقسيم هذه الرؤى إلى رؤيتين.
الأولى: وتمثلها القوى ذات الايديولوجية الشمولية الدينية والقومية، ومع اختلاف مرجعية هذه القوى فأنها ترى أن الفيدرالية هي مقدمة للتقسيم كما هو الحال في العراق ، كما انها ستؤدي إلى إذكاء الصراع الطائفي والقومي والاجتماعي ضمن الدولة الواحدة.
الثانية: القوى الديمقراطية المتمثلة بالليبيرالية والعلمانية والقومية في الحالة الكردية في العراق والقوى الشيعية في الجنوب، وترى هذه القوى على اختلاف نظرتها إلى الفيدرالية على انها تشكل ضمانة لعدم عودة الديكتاتورية وطريقة عقلانية لإدارة البلاد وتوزيع السلطات وممارسة الحكم والديمقراطية وتوزيع الثروات وتحقيق التنمية الشاملة بعيدا عن مفاهيم المركزية التي حصرت السلطة والقرار في المركز .
في الواقع، مع المبررات التي يسوقها الطرفان والتي تبدو منطقية لدى الجانبين نظرا لتعقيدات الوضع في العالم العربي وتحمل مشهده السياسي أكثر من وجه في ظل تداخل حراك الداخل مع العوامل الخارجية يمكن القول ان ثمة عوامل تجعل من الجدل الجاري جدلا مثمرا على أمل إيجاد نقاط مشتركة من خلال الحراك الجاري والحوار والتعامل بعقل سياسي مفتوح كي لا تبدو الفيدرالية انها مجرد فكرة أمريكية- إسرائيلية كما يقول البعض،ولعل هنا ينبعي التوقف عند العوامل أو النقاط التالية: 1- ان الفيدرالية تبدو حتى الآن بالنسبة لمنطقتنا فكرة غربية قادمة عبر الأطلسي، أي ان المنطقة تفتقر إلى ثقافة الفيدرالية ومفاهيمها على صعيد الإدارة والحكم وأسلوب التنمية فيما لاتزال الأفكار الايديولوجية سواء القومية أو الدينية الضيقة تتحكم بأنساق التفكير، ولعل هذا ما يدفع بالعديد إلى رفض الفيدرالية دون التمعن في فوائدها المستقبلية خاصة وان البعض الأخر يرى ان الفيدرالية لا تعني التقسيم - بل وحسبهم - أصبحت طريقة وحيدة لتوحيد بعض الدول / العراق ndash; السودان .. الخ / وحفظ الوحدة الجغرافية لهذه الدول بعد ان قطعت الأقاليم في هذه الدول أشواطا بعيدة في مجال التأسيس لبنية محلية في الحكم والإدارة حيث تجربة إقليم كردستان العراق في التأسيس لمثل هذا الحكم . 2- ان الفيدرالية كمفهوم تم الموافقة عليه بموجب استفتاء في العراق كما تم إقراره دستوريا و وافقت القوى التي تعترض على الفيدرالية على هذا الدستور، وبالتالي الرجوع عنه يشكل انتكاسة سياسية للعملية السياسية الجارية ويشرع الباب أمام تعميق الانقسامات السياسية والتدخلات الخارجية، وبالتالي فان الرفض هنا قد يكون طريقة للتقسيم، وعليه فان من يرفض الفيدرالية التي أسست دستوريا قد يتسبب بالتقسيم ودفع العراق أمام المجهول . 3- ان البحث عن صيغة متطورة للدولة العربية بعد فشل تجربة ما بعد الاستقلال فى تحقيق التنمية والديمقراطية والحرية يتطلب الإقتداء بتجارب ناجحة في الحكم والنظام والإدارة والتنمية، وهنا يجري الاستشهاد بالتجارب الفيدرالية التي سادت أوروبا مع اختلاف نماذجها والتي حققت في النهاية لأوروبا نهضة شاملة حققت لدولها المزيد من التقدم . وانطلاقا من هذه العوامل فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا،هو لماذا رفض الفيدرالية والنظر إليها كأنها تعني التقسيم لا أكثر ؟ إذا كان الجواب هنا ينصب في خانة الإيجابية فان مثل هذه الإيجابية تستند إلى ثلاثة مسائل أساسية كما هو الحال في العراق. الأولى : تعدد مكونات الشعب العراقي، قوميا ( عرب ndash; أكراد ndash; تركمان ) دينيا ( إسلام ndash; مسيحية) وطائفيا ( شيعة ndash; سنة ) وبالتالي مثل هذا التعدد يتطلب نوعا من الإطار القانوني والسياسي لحماية الخصوصية والاستقلالية المحلية أولا، ومن ثم لضمان المشاركة والتمثيل في الحياة السياسية ثانيا، وبالتالي نيل الاهتمام في مجال المشاريع والتنمية والبناء ثالثا. الثانية: ان تجارب الحكم السابقة في العراق والتي اتسمت بالمركزية وبحكم الحزب الواحد وصولا إلى دكتاتورية صدام .. هذه التجارب وما خلفتها من انقسامات ومآس في مختلف مناطق العراق أدت إلى قناعة لدى معظم القوى العراقية بأن أسلوب الحكم المركزي لم يعد يناسب إدارة الدولة العراقية وأن الفيدرالية كصيغة حكم قد تكون الأنسب لمنع عودة الحكم الدكتاتوري إلى البلاد . الثالثة: البعدان القومي والجغرافي، إذ لا يخفى على أحد ان الإقليم الكردي في الشمال يحظى بخصوصية قومية كردية، وكإقليم فيه شعب كردي له مطالب وحقوق كثيرا ما كانت سببا لحروب وصراعات بين الأكراد والحكومات العراقية المتعاقبة منذ ما قبل استقلال الدولة العراقية ومرورا باتفاقية 11 آذار العام 1970 التي أقرت بحكم ذاتي موسع هو أقرب إلى الفيدرالية وصولا إلى القانون الذي صدر في آذار 2004 حيث تقول المادة الرابعة منه ( إن نظام الحكم في العراق جمهوري اتحادي فيدرالي، يجري فيه تقاسم السلطات بالاشتراك بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات) كما أقرت المادة الخامسة من الدستور العراقي المؤقت مبدأ الفيدرالية. في الواقع، مع التأكيد على ان الفيدرالية أضحت صيغة توافقية للحفاظ على وحدة الدولة العراقية إذ بغيرها يبدو ان التقسيم واقع لا محالة، فإن ثمة مخاوف وعقبات تعترض الفيدرالية يمكن إجمالها في نقطتين . 1- ان هناك اختلافا بين القوى المتفقة على مبدأ الفيدرالية على طبيعة هذه الفيدرالية، بين الأكراد الذين يطرحون الفيدرالية على أساس قومي جغرافي كصيغة لكيانهم القومي الخاص بهم، وبين بعض القوى الشيعية التي تطرحها من باب طائفي لمسألة إدارة الجنوب، وبين بعض القوى ( العلمانية ) التي تنظر إلى المسألة من باب إداري لا أكثر فيما تبقى هناك مجموعات رافضة للفيدرالية من الأساس . 2- ان الفيدرالية كصيغة للحكم في العراق تثير مخاوف وحفيظة الدول المجاورة للعراق وبشكل خاص تركيا التي ترى فيها مدخلا لإقامة دولة كردية في العراق ستنعكس بظلالها على أكرادها في الداخل، وكذلك الأمر في إيران وسورية لأسباب مشابه . في الواقع، ينبغي القول ان العقلانية تتطلب التعامل مع الجدل الجاري في العالم العربي بشأن الفيدرالية من زاويتين. الأولى: على انها تقدم الحل لمشكلة مزمنة هي مشكلة الشعوب والأقليات القومية والدينية ضمن الدولة الواحدة. والثانية: انها تقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزيا. والسؤال إذا كانت الفيدرالية تقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين عربيا فألا تستحق من الجميع التوقف عندها وإعطاء الفرصة لها بعيدا عن الشعارات الجاهزة والتي تساويها بالتقسيم ؟ والأمر هنا لا يتعلق بالعراق والسودان فحسب بل بمعظم الدول العربية التي لكل منها ظروف مختلفة وأخرى مشابه معا.
- آخر تحديث :
التعليقات