مع انهيار نظام الاستبداد، تم العمل في تونس على إنشاء نظام بديل من خلال اجراءت بدأت مع الحكومة المؤقتة، و التي سوف تستمر مع الحكومة الجديدة المنبثقة عن المجلس التأسيسي المنتخب. لكن تونس لن تكون قادرة على رفع التحديات التي تواجهها اليوم دون القيام بإصلاحات مؤسسية عميقة من خلال مراجعة صلاحيات و طريق عمل المؤسسات المتواجدة، مثل الوزارات و المصرف المركزي و هيئات تطوير الاستثمار و الصادرات و السياحة، و كذلك بإنشاء مؤسسات جديدة، خصوصا تلك التي ثبت نجاحها في دول أخرى، و اخص بالذكر منها في هذا المقال مثال المحكمة العليا.
توجد في تونس حاليا محكمة إدارية تحظى بالاحترام، و تأكدت مصداقيتها من جديد اثر الانتخابات الأخيرة عندما أبطلت قرار اللجنة العليا المستقلة للانتخابات بإلغاء بعض قوائم العريضة الشعبية، لكن صلاحياتها لا تتعدى القضايا الإدارية. لذلك، لا يوجد خلاف على أهمية إنشاء محكمة عليا للبت في دستورية القوانين و التشريعات، بل الخلاف ndash; إن وجد ndash; فهو يدور حول الاكتفاء بهذا الحد أو يتوجب أيضا تمكين الأفراد من التظلم لدى هذه المؤسسة، و هو أمر شائع في الديمقراطيات العريقة و الحديثة، على حد سواء.
في أمريكا، على سبيل المثال، لجا السجين السعودي حميدان بن علي التركي إلى المحكمة العليا في واشنطن ، بعد أن رفضت المحكمة العليا في ولاية كلورا دو الطعن الذي تقدمت به هيئة الدفاع عنه، كما قدم 250 عراقيا طلبا بالاستئناف لنفس المحكمة لإعادة النظر في قضيتهم ضد شركة سي.ايه.سي.اي انترناشيونال المسئولة عن تقديم محققين في سجن أبو غريب. سبق أيضا للمحكمة العليا الأمريكية أن اتخذت قرارات ضد الحكومة نفسها، كما حصل مع معتقلي جوانتانامو الذين أنصفتهم عندما قررت أن احتجازهم لأجل غير مسمى يعد أمرا غير قانوني.
لاقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، و هي احد أهم مؤسسات الوحدة الأوروبية، نجاحا مماثلا بقبولها شكاوى من الأفراد و من الدول التي تدّعي أن دولة ما قد انتهكت معاهدة الوحدة الأوروبية، و من ثم تقوم بفحصها وتصدر الأحكام الملزمة قانونيا لكافة الدول الأعضاء. و يكفي أن نذكر هنا توصية هذه المحكمة السنة الماضية للدول الأعضاء بالإيقاف المؤقت لتسفير العراقيين إلى بلادهم بسبب الوضع الأمني هناك.
تؤكد هذه الأمثلة و غيرها على أهمية إنشاء محكمة عليا في تونس - و في دول الانتقال الديمقراطي العربية الأخرى - شرط ألا يقتصر دورها على النظر في القوانين و التشريعات، بل يتعداه لتكون الملاذ الأخير للمتظلمين من أفراد و مؤسسات، و بذلك نكون قد طوينا صفحة حالكة من الماضي عندما كان المظلوم في بلادنا لا يجد نصيرا غير الهيئات الحقوقية الدولية، مثل بعض المحاكم الأوروبية التي لجا لها التوانسة لتقديم شكاوى ضد المسئولين عن التعذيب (وزير الداخلية السابق عبد الله القلال، مثالا). و بما أن هذا المقترح يحظى بموافقة الأعضاء الحاليين للائتلاف الحكومي الجديد، و لا يوجد ما يدعو لرفضه من طرف حركة النهضة التي ما كان أعضاؤها ليعانوا ما عانوه في السابق لو توفرت لهم محكمة عليا بالمواصفات المنوه عنها أعلاه، فالمرجح و المأمول أن ترى هذه المؤسسة المقترحة النور قريبا، كأحد لبنات الإصلاح القضائي المنشود.
و العقل ولي التوفيق...

[email protected]