مع تعيين د. منصف المرزوقي رئيسا جديدا لتونس، رأيت انه من المهم تقديم هذه الشخصية الوطنية للقراء، بناء على معرفتي السابقة له - و لو لفترة محدودة -.
لم تكن عودة د. منصف المرزوقي إلى تونس بعد السنوات الطويلة التي قضاها في كل من المغرب و فرنسا بالأمر العادي، خصوصا و أن إقامته الدائمة في فرنسا أصبحت سهلة مع زواجه من سيدة فرنسية و تخرجه من كلية الطب بمدينة ستراسبورج. و حتى عندما عاد في سنة 1979 بهدف الإقامة النهائية في تونس، كان تركيزه الأساسي في البداية على مزاولة مهنة الطب.
مثلت مقالاته في صحيفة الرأي المعارضة و انتماؤه للرابطة التونسية لحقوق الإنسان المدخل للدكتور للاحتكاك بالمجتمع المدني. و إن انتهت مغامرة رئاسته لهذه المنظمة بالسجن، نتيجة الطابع التصادمي للدكتور من جهة و سياسة القبضة الحديدية للرئيس بن علي من جهة أخرى. و الافت ان الرجل استطاع تحويل العملية لصالحه بإعلانه حال مغادرته السجن في شهر مارس 1994 عن ترشحه للانتخابات الرئاسية، ما مثل تحديا كبيرا لبن علي في تلك لفترة، و قدم دعاية مجانية لدى الرأي العام كان الرجل في اشد الحاجة إليها.
تعرفت شخصيا على د. منصف المرزوقي في السنوات 1996-2000، و ذلك من خلال تحملي - و بمحض الصدفة - لمسؤوليات على رأس فرع تونس لمنظمة العفو الدولية. و تعززت الصداقة بيننا فيما بعد لما وجدته فيه من صدق و إيمان بالمبادئ و شجاعة فائقة و استعداد للدفاع عنها. تعاطفت معه عندما تم طرده من عمله كأستاذ بكلية الطب بالجامعة التونسية، و سارعت حال انتهاء مهمتي بالعفو الدولية في صيف سنة 2000 إلى الانضمام إلى مجموعة من الناشطين بالمجلس الوطني للحريات (الذي كان المرزوقي أول ناطق رسمي له)، حيث قمنا بتكوين لجنة وطنية للدفاع عنه، كان لي شرف تحمل مسؤولية المنسق العام لها.
إذا كان الصدق و الشجاعة في الدفاع عن المبادئ من الميزات الرئيسية للدكتور، فلا يمكن إغفال بعض السلبيات، مثل طبيعته التصادمية مع النظام التي ربما كانت عاملا في إزاحته من رئاسة الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، و كذلك طبيعته الانزوائية التي تميل إلى العمل الفردي و آراؤه المثالية بشان الخيارات الاقتصادية و الاجتماعية، بالإضافة إلى عدم ممارسته للإدارة. لكن حظ الدكتور شاء أن هذه السلبيات المفترضة لم تكن تعني الكثير للمواطن التونسي قبل و بعد سقوط النظام. بالرغم من شح المعلومات، يبدو أن شرائح هامة من الشعب قد تجاوبوا مع دعوات د. منصف المرزوقي من منفاه بفرنسا للعصيان المدني السلمي منذ سنة 2006 على قناة الجزيرة، و على quot;اليوتوب،quot; و إن اقتصر الأمر على مستوى العواطف في مرحلة أولى، قبل أن يتحول هذا التجاوب الشعبي إلى عمل ملموس مع انطلاق شرارة الانتفاضة في شهر ديسمبر الماضي. عادت هذه السلبيات إلى السطح مع عودة الدكتور إلى تونس بعد سقوط النظام، و هو ما يفسر البداية الضعيفة لحزبه (المؤتمر من اجل الجمهورية)، حيث كانت استطلاعات الرأي تعطي هذا الحزب نسبة أصوات اقل حتى مما كان يحصل عليه حزب راديكالي، مثل حزب العمال الشيوعي التونسي.
رأيي الخاص إن د. منصف المرزوقي قد استطاع الخروج بسرعة من quot;كبوتهquot; حسب تعبير أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، فتحي الجراي، لسببين رئيسيين: أولهما إن ميزاته، و خصوصا مواجهته الشجاعة للنظام السابق كانت في نظر غالبية التوانسة تفوق سلبياته المنوه عنها أعلاه، و ثانيهما انه من الزعماء المعارضين القلائل الذين تعرضوا للسجن و الطرد التعسفي في السنوات الأخيرة لحكم بن علي، و هي الورقة التي لعب بها الرجل بذكاء - وهو الطبيب النفساني بالدرجة الأولى - عندما طالب الشعب بالتصويت فقط للذين دفعوا ثمنا ناهضا أيام المعارضة للدكتاتورية، أي النهضة و حزبه و حزب العمال.
أما بخصوص حصول حزبه على الدرجة الثانية في انتخابات المجلس التأسيسي، فلا اعتقد انه حصد الكثير من أصوات المتعاطفين مع النهضة بدليل حصول هذه الأخيرة على نسبة تفوق التوقعات (43% من الأصوات)، كما من غير المرجح جلبه لأتباع الحزب الحاكم السابق البالغ عددهم 2.3 مليون، لكنه حصد الكثير من أصوات الذين كانوا يتوجسون من الأحزاب التي لم تكن تمثل معارضة جدية للنظام السابق، و يتخوفون في نفس الوقت من الأحزاب الدينية، بالإضافة إلى شريحة واسعة من أعضاء الخاسر الأكبر، أي quot;الحزب الديمقراطي التقدميquot; الذي كان يحصل في استطلاعات الأشهر الأولى من الثورة على نفس نسبة الأصوات التي كانت تحصل عليها النهضة، والذين غادروا هذا التنظيم بالجملة و بالمفرق ليجدوا في quot;المؤتمرquot; الملاذ المفضل. و أما بخصوص احتمالات نجاح د. منصف المرزوقي كرئيس للدولة التونسية، فهو يتوقف إلى حد كبير على المهام المنوطة بعهدته، و التي كانت محل اختلاف بينه و بين النهضة التي تريد لهذا المنصب دورا رمزيا كما هو الحال في النظم البرلمانية. واعتقادي الشخصي إن دور الرئيس الجديد لتونس خلال هذه الفترة سوف يكون اقرب إلى دور المجتمع المدني منه إلى دور السلطات التنفيذية، أي دور الراصد لعملية صياغة الدستور و المؤتمن على قضايا الحرية و حقوق الإنسان، و هي الضوء الأحمر الذي من المستبعد أن يساوم في شانه د. منصف المرزوقي كائنا من كان.
[email protected]
التعليقات