كان يوم 25 مارس 1956 يوما مشهودا في تاريخ تونس الحديثة باعتباره يوم انتخاب المجلس القومي التأسيسي، بعد أيام قليلة من حصول الدولة على الاستقلال. صحيح إن تلك الانتخابات لم تكن شفافة و حرة و نزيهة بمقاييس اليوم. لكنها كانت تمثل إلى حد كبير الرأي العام الوطني في تلك المرحلة، حيث كان نصيب الأسد فيها للجبهة القومية التي تكونت من الحزب الحر الدستوري الجديد - حزب النضال من اجل الاستقلال - و الاتحاد التونسي للشغل و الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة.
حققت تلك الانتخابات ما لم تحققه أية انتخابات شبيهة في الدول العربية و الإسلامية الأخرى، و ذلك بوضع الدولة الفتية على سكة الحداثة و التقدم، تنفيذا للخيارات الرائدة للزعيم الحبيب بورقيبة. و هي خيارات لم يتم التراجع عنها من حيث المبدأ حتى في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. و هذا ما اعطى تونس قصب السبق في المجالات التعليمية و الاقتصادية و الاجتماعية، و هو ما بوأها في نهاية المطاف لقيادة الانتفاضة الشعبية الدائرة حاليا في العالم العربي.
لعل من سخرية القدر أن تجد تونس نفسها اليوم، بعد ستة عقود متواصلة من الاستقرار و الحداثة و التقدم، أمام استحقاق جديد لانتخاب المجلس التأسيسي لإعداد دستور جديد للبلاد، مع فارق هام و هو أن التحدي الذي تواجهه البلاد اليوم يفوق ما كان عليه الأمر غداة استقلال البلاد عام 1956.
على المستوى الاجتماعي، توجد اليوم فوضى عارمة في تونس، بالتزامن مع الانهيار الاقتصادي، بينما قوى الردة و التطرف و روح الانتقام تهدد - و لو عن غير قصد - كل ما بناه الآباء و الأجداد منذ الاستقلال. أما على المستوى السياسي فالبورقيبية أجنحتها مقصوفة نتيجة إفراغ الحزب الدستوري من محتواه النضالي بانتفاء شروط المنافسة السياسية منذ أن تحولت البلاد إلى نظام الحزب الواحد في عقد الستينات من القرن الماضي، ثم زاد المخلوع بن علي الطين بلة بتحويل ما تبقى منه إلى مجرد quot;جهاز إسنادquot; للحكم. أضف إلى ما سبق منع كل من تحمل مسئولية في الحزب الحاكم السابق خلال السنوات العشرة الماضية من الترشح للانتخابات و تشرذم القوى السياسية الأخرى بين ما يقارب ستين حزب سياسي و يصبح من السهل لأي مراقب إدراك الفراغ السياسي المخيف الذي يهدد مستقبل البلاد.
مع هذا، أرى شخصيا إمكانية إنقاذ الموقف من خلال تشكيل جبهة وطنية تقدمية تحظى بإجماع أغلبية التونسيات و التونسيين حول أولوية الحفاظ على مكتسبات العقود الستة الأخيرة، ألا و هي مكتسبات الواقعية السياسية و التعاون مع الدول المتقدمة و حقوق المرأة و التعليم و النهوض الاقتصادي المبني على اندماج الاقتصاد الوطني في الاقتصاد العالمي. لقد حان الوقت لمبادرة من الأستاذ احمد نجيب الشابي الذي يحظى حزبه - الحزب الديمقراطي التقدمي - حسب استطلاعات الرأي، بنسبة تتراوح بين 20% إلى 30% من ثقة الناخبين، أي نفس النسبة التي تحصل عليها حركة النهضة الإسلامية، إلى التنسيق مع الأحزاب الأخرى التي تشاطرها نفس الأهداف و في مقدمتها حزب التجديد (أكثر من 10% من أصوات المستطلعة آراؤهم). كما من الأهمية بمكان أن ينخرط الاتحاد العام التونسي للشغل بكل ثقله في هذه الجبهة.
حسنا فعلت القيادة النقابية برفضها، اثر سقوط النظام السابق، إنشاء حزب سياسي باعتبارها حاضنة المناضلين الذين ينتمون لمختلف الأحزاب و التيارات السياسية في البلاد. لكن الانتماء إلى جبهة معينة خلال العملية الانتخابية لا يجعل النقابة طرفا في العمل السياسي الحزبي، تماما كما لم يتحول الاتحاد التونسي للشغل إلى حزب سياسي عندما كان شريكا رئيسيا في الجبهة القومية عام 1956.
بناء على عملية حسابية بسيطة يبدو من الأكيد أن تحصد الجبهة التقدمية المنوه عنها أعلاه أكثر من نصف الأصوات - ربما 60% أو أكثر - و بذلك سوف تعكس انتخابات المجلس التأسيسي المقبلة المشهد السياسي الحقيقي لتونس، و سوف تكون المصلحة الوطنية العليا الرابح الأكبر بتكوين حكومة تحظى بالأغلبية البرلمانية و الشرعية التي تساعدها على إعادة استتباب الأمن و عودة العمل و الاستثمار إلى سابق عهده، و هي أولى أولويات المواطن التونسي اليوم. كما لن يكون هناك خاسر أو مغلوب في هذه الحالة، إذ ستحصل حركة النهضة على ما تمثله لدى الرأي العام، بينما يصوت أعضاء الحزب الحاكم السابق كل حسب قناعاته الشخصية، و تبقى القوى العسكرية و الأمنية وصية على المهام التي أنشئت من اجلها دونما ضرورة للتدخل في السياسة.
[email protected]