سرقات الحكام لمليارات الدولارات ظاهرة جمهورية بامتياز حيث ثبت بطلان الاتهامات التي وجهت للملك فاروق و شاه إيران في هذا الشأن

تفيد المعلومات المتوفرة بوجود سرقات رئاسية بمبالغ ضخمة تقارب معدل 55 مليار دولار بالنسبة للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك و 12 مليار دولار للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. و هذه البيانات تتماشى مع التقديرات المتوفرة عن دول مشابهة، مثل سرقات عائلة سوهارتو في اندونيسيا لثروة تقارب 40 مليار دولار، كما أنها جاءت من مصادر موثوقة و ذات مصداقية.
من المهم التنويه اولا بان هذه الثروات لا تتناسب اطلاقا مع ما يمكن لهؤلاء الرؤساء جمعه من رواتبهم. الراتب المعقول لهؤلاء الرؤساء حسب المستويات الدولية المعروفة، يقارب 100 إلف دولار سنويا، و هو ما يمثل نصف راتب الرئيس الأمريكي، و إن كان هذا المبلغ اقل بكثير من راتب المليون دولار الذي يتقاضاه وزراء سنغافورة سنويا، و الذي تم اعتماده منذ أكثر من سنة بناء على توصية من باني الدولة الحديثة quot;لي كوان يوquot; باعتبار أن هذا الراتب المرتفع ضروري لجلب الكفاءات العالية للحكومة السنغافورية من القطاع الخاص، خصوصا كبرى المؤسسات العالمية، و هو ضروري أيضا لقطع دابر الفساد لدى مسئولي الدولة. لكن بمثل هذا الراتب المفترض - بحدود 100 ألف دولار سنويا- ما كان بإمكان حسني مبارك أن يجمع ثروة تفوق 3 مليون دولار خلال فترة حكمه، و ما كان لبن علي أن يجمع أكثر من 2.3 مليون دولار خلال نفس الفترة.
كما من المهم التنويه بان سرقات مليارات الدولارات تعتبر ظاهرة جمهورية بامتياز، إذ اتضح كذب الإشاعات التي حامت حول ثروة الملك فاروق في مصر، بدليل أن هذا الأخير قد أنهى حياته يعيش على بعض العون الذي كان يحصل عليه من العائلة المالكة السعودية. كذلك تم تفنيد التقديرات التي نشرتها quot;الفايننشيال تايمزquot; مؤخرا عن ثروة 35 مليار دولار لشاه إيران السابق، على يد مستشار أمريكي سابق للشاه في رسالة لنفس الصحيفة، و هو ما تأكد أيضا بفشل الحكومة الإيرانية في استرداد الأموال المزعومة من البنوك الأمريكية و السويسرية، رغم الدعوات التي أقامتها لدى المحاكم المستقلة في هذه الدول.
لكن السؤال المطروح الذي سأركز عليه في هذا المقال يخص الآثار الاقتصادية (سلبا و إيجابا) لهذه السرقات. ملاحظتي الأولى إن السرقات المذكورة أعلاه تتركز في عائلة الرئيس في الحالة المصرية (3.5 مليار دولار للزوجة سوزان، 10 مليار دولار للابن الأصغر علاء و 17 مليار دولار للابن الأكبر جمال، و البقية الباقية أي 63% من مجموع 55 مليار دولار بيد الرئيس). بينما تتوزع الثروة المنهوبة في تونس على عدد كبير من أصهار الرئيس مما جعل التحكم في طريقة جمعها أمرا مستحيلا حتى لو أراد الرئيس ذلك. فالمعروف أن بن علي سبق له و أن تدخل شخصيا عدة مرات لتنبيه صهره الأكثر جشعا، يلحسن الطرابلسي، من عدم التحرش بالشركات الأجنبية العاملة في الدولة، خوفا من حصول فضيحة في الخارج و انهيار الاستثمار الأجنبي، لكن مثل هذه التدخلات - و على أهميتها - تصبح غير ذات جدوى مع توسع دائرة المستفيدين.
و ملاحظتي الثانية تخص اثر هذه السرقات على نسبة النمو السنوي للاقتصاد الوطني. التقديرات المتوفرة تشير إلى عمليات تهريب للأموال الرئاسية تقدر سنويا بحوالي 2 مليار دولار في مصر، مقارنة بمليار دولار واحد في تونس، حسب مؤسسة سلامة القطاع المالي العالمي ldquo;Global Financial Integrityrdquo;. و يمثل هذا المبلغ 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي الوسطي التونسي (لسنة 2005 على اعتبار أن عمليات التهريب هذه وقعت في مجملها خلال العقد الأخير)، مقارنة بنسبة 2% في الحالة المصرية. و بما أن خروج هذه الأموال يفقد الاقتصاد الوطني السيولة الأزمة، يكون الأثر السلبي واضحا في الحد من نسبة النمو، ربما بالنسب الذكورة أعلاه. و حتى في حالة انكماش نسبة النمو الاقتصادي بنقطة مئوية فقط نتيجة هذا التهريب السنوي للأموال، فهذا يفسر في حد ذاته فشل تونس و مصر في النمو بصفة أسرع مما تحقق خلال السنوات الأخيرة. و لو استطاعت تونس أن تضيف هذه النقطة المؤوية الواحدة لنموها الاقتصادي، خلال السنوات العشرة الأخيرة، لاقتربت من نسبة 6.5% التي يعتبرها البنك الدولي ضرورية للحد من البطالة. و يمكن قول تقريبا نفس الشيء بالنسبة لمصر.

تهريب الأموال المنهوبة إلى الخارج سنويا تقدر بحوالي 2% في مصر و 3.5% في تونس من الناتج المحلي، مما اثر سلبا على نسبة النمو الاقتصادي و فوت الفرصة لتحقيق 6.5% نمو الضرورية للحد من البطالة
قد يبدو من أول وهلة أن السرقات الرئاسية ليست بالضرورة شرا كلها.عندما انطلق صهر الرئيس التونسي المخلوع، يلحسن الطرابلسي، إلى العالمية بحصول شركة الطيران التابعة له quot;كارتاجو ارلاينزquot; على صفقات رحلات quot;تشارترquot; لنقل السياح إلى شارم الشيخ أو عندما أقام صهره صخر الماطري نادي اليخوت بالضاحية الشمالية، قد توفر هذه المبادرات مصدرا إضافيا للعملة الصعبة للبلاد. لكن ليس من الواضح أن هذه المداخيل لن تبقى في الخارج. كما أن جمع واستثمار هذه الأموال بصفة شرعية من طرف رجال أعمال آخرين كان بإمكانها أن توفر مردودا أعلى.
و يبقى الأثر الاسوء للسرقات الرئاسية - في تقديري - هو تعميم الفساد، عندما يحاول المسئولون الصغار القيام بنفس الشيء - و لو بصفة اقل -، و بذلك تعم البلطجة و طلب الرشوة مقابل الخدمات العمومية، كما يزيد ابتزاز المواطنين بواسطة التهديد، مثل مراجعة الضرائب على الشركات التي تحقق أرباحا. فيضطر رجال الأعمال الناجحين إلى تهريب أموالهم إلى الخارج أو الإبقاء على شركات صغيرة نسبيا بحيث لا تجلب اهتمام البطانة الحاكمة. و كل هذا يحد من قدرة الاقتصاد الوطني على الاستفادة من قدرات الشركات كبرى على المنافسة في الأسواق العالمية. و ربما يخسر الاقتصاد الوطني أكثر من ذلك نتيجة الحالة العامة من عدم اليقين التي تعم قطاع الأعمال و المستثمرين الأجانب، مما يشل من القدرة على اتخاذ القرار في مجالي الاستثمار و الإنتاج.
كما لا يمكن تجاهل الهزات التي تنتج عن نظام حكم فاسد. ففي أزمة 1997 الاسوية، على سبيل المثال، لم تخسر كوريا الجنوبية إلا 7% من ناتجها المحلي و الذي استرجعته في اقل من سنة بعد ذلك، كما خسرت تايلاند 10.5% من ناتجها في 1998 و هو ما استعادته في السنة الموالية، بينما تعرضت اندونيسيا ذات النظام الشمولي الفاسد إلى انتفاضة شعبية أطاحت بالجنرال سوهارتو، رأس الفساد، و انخفض الناتج المحلي الإجمالي للدولة خلال السنوات 1997- 1999 بقرابة 13%، مما جعل من عودة الاقتصاد إلى سابق عهده أمرا صعبا.
و اليوم و قد وقعت الفأس في الرأس و تم طرد الرئيسين بن علي و مبارك من سدة الحكم نتيجة أسباب متعددة، منها النقمة الشعبية العارمة على الفساد و نهب المال العام، على الحكومات العربية ألا تكتفي بالوعود و تقديم بعض المسئولين الفاسدين ككبش فداء.
البرنامج وطني للحد من الفساد يجب ان يقوم على فتح فروع محلية لمنظمة الشفافية الدولية و وضع حد للاحتكار و منح رواتب للمسئولين تنافس ما يوفره القطاع الخاص
من أولويات السياسة الاقتصادية الجديدة للحد من الحاجة إلى دفع الرشاوى إعادة هيكلة الإدارة العمومية و مراجعة رواتب المسئولين مقارنة بما يوفره القطاع الخاص، و دعم التنافسية على اعتبار الاحتكار و حماية الاقتصاد الوطني من المنافسة الخارجية من اهم مصادر الرشوة و الفساد. كما يتوجب على الدول العربية فتح فروع لمنظمة الشفافية الدولية لديها و اعتماد برامج وطنية للحد من الفساد بالتعاون مع هذه الأخيرة و المؤسسات الدولية الأخرى الناشطة في هذا المجال، دون أن ننسى بطبيعة الحال دور القضاء و الإعلام المستقل في فضح التجاوزات و تعزيز المساءلة.
[email protected]