سبق لي أن عرضت في مقالي السابق (بعنوان خيارات تونسية صائبة ولكن...) الخيارات الأساسية التي قامت عليها الدولة التونسية الحديثة، ألا و هي خيار الحداثة (بإصدار قانون المرأة في شهر أغسطس 1956) و خيار التعاون مع الدول المتقدمة للاستفادة منها في تنمية البلاد، و خيار الاندماج في السوق العالمية الذي بدا في سنة 1972 و تعزز بعد ذلك بمصادقة تونس على اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1995. و في تقديري إن هذه الخيارات التي تقدمت بتونس أشواطا هائلة على طريق الحداثة و التنمية قد أسست في نفس الوقت للانتفاضة الشعبية الأخيرة، التي بدأت في صورة احتجاجات عفوية غير منظمة ثم تحولت إلى انتفاضة عمت مختلف المناطق ثم انتهت إلى ثورة بالمعنى العلمي للكلمة، أي إعادة هيكلة البنية التنظيمية و المؤسساتية للدولة في وقت قصير.
لم يخطئ الذين سبق لهم و أن حذروا الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مرارا من خطر الشعب المتعلم على النظام. و التعليم التونسي الذي يختلف في محتواه عن المناهج المتبعة في جل الدول العربية الأخرى (ربما باستثناء لبنان) باعتماده على المناهج العصرية المستنسخة من المناهج الفرنسية و مساعدته على نشر اللغتين الفرنسية و الانجليزية، قد مكن فعلا جيش المليوني quot;فايسبوكيquot; تونسي من الاستفادة مما ينشر على هذا المنبر الاجتماعي و مكنهم من التواصل مع العالم الخارجي بطريقة أفضل. و على هذا الأساس، تم كسر حاجز الرقابة منذ بداية الاحتجاجات، كما تم مد الفضائيات الأجنبية بمادة إعلامية دسمة جندت الرأي العام العالمي لصالح القضية و حولت قنوات الجزيرة و العربية، على سبيل المثال، إلى ما يشبه غرف عمليات الحركة الشعبية.

أما الاندماج الاقتصادي في السوق العالمية فقد تولد عنه احتكاك دائم بالثقافات و الشعوب الأخرى، من خلال ما يزيد عن 5 مليون مواطن غربي يزور البلاد سنويا و أكثر من 3 آلاف شركة أجنبية تنشط في البلاد. و لا شك إن هذا التلاقح الايجابي بين الأفكار الذي تواصل دون انقطاع على مدى أكثر من خمسة عقود قد ساهم في تغيير الذهنية التونسية بصفة جذرية و أسس إلى طلاق بائن بين الشعب و النظام القائم.

و أما انعتاق المرأة الذي أسست له مجلة الأحوال الشخصية منذ العام 1956 فهو الذي يفسر مساهمتها في الشأن العام على مدى عقود طويلة من خلال القنوات الرسمية و كذلك من خلال الجمعيات المستقلة مثل الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات. و هو ما يفسر المشاركة الواسعة للمرأة التونسية في المسيرات و الاعتصامات التي شهدتها المدن التونسية خلال الانتفاضة الأخيرة.

كذلك، لا يمكن أن ننسى دور الخيارات المذكورة أعلاه في تعزيز مؤسسات المجتمع المدني
ndash; رغم مساعي النظام للحيلولة دون ذلك- مثل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي عرفت قواعده تحولا جذريا مع انتشار التعليم و دخول المرأة سوق العمل بقوة. و من هنا كان قيامه بالإضراب العام في مدينة صفاقس ndash; ثلاثة أسابيع بعد بدا الاحتجاجات- و نجاحه الإشارة الواضحة لتحول الحركة الاحتجاجية إلى انتفاضة شعبية عمت البلاد بأكملها بحيث لم تعد المسالة مجرد أعمال فردية غير منظمة، و هي القطرة التي أفاضت الكأس و أقنعت الجميع باستحالة استمرار النظام القائم، و في مقدمتهم الرئيس بن علي الذي لم يجد خيارا آخر غير مغادرة البلاد، مما أدى إلى سقوط حكمه و سقوط نظامه بالكامل و إلى غير رجعة.

مع هذا لا بد من التنويه بوجود أسئلة كثيرة مازالت تحتاج إلى إجابة، من بينها فشل الانجازات التنموية في الحيلولة دون سقوط النظام، و فشل الجميع في توقع هذا السقوط السريع، و هي أسئلة سوف نعمل على الإجابة عليها في مقالاتنا القادمة.
[email protected]