التونسيون كغالبية الشعوب العربية، لا يكنون الكثير من الود للولايات المتحدة الأمريكية، ويعتقدون أنها سبب شرور كثيرة تقع في منطقتهم، لكن تقارير صحفية عديدة أكدت أن للولايات المتحدة دور ما في إنهاء حكم الرئيس بن علي، وأنها أوعزت لمن يخبره برغبتها في رحيله، وقد أكد الصحفي والكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل بدوره هذه المعلومة ووثق صحتها.
و أشارت مجلة التايم الأمريكية في عددها الأخير، أنها تتوقع أن تقود تونس بعد ثورتها واستقرار نظامها الديمقراطي مسيرة الإصلاح في العالم العربي، وقالت أنها ستكون أول صفحات فصل جديد من كتاب تاريخ المنطقة العربية، إذ دبجت فعلا يوم 14 يناير في تونس، وستتواصل كتابة الصفحات الباقية خلال السنوات القادمة على يمنة بلاد الياسمين ويسرتها.
و يربط محللون بين موقف الولايات المتحدة المعارض للرئيس بن علي، و ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قبل أسابيع في مؤتمر دولي في الدوحة، وجهت خلاله دعوة واضحة إلى إعادة بناء النظم السياسية في المنطقة العربية على أسس ديمقراطية، و حذرت الحكام العرب من خطورة إغفال الإنصات إلى نبض شعوبهم، ودفع بلدانهم نحو المجهول والفوضى، منتقدة الحالة القمعية السائدة في عديد الدول العربية.
و البين أن العالم العربي فقد منذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 وسقوط نظام الطاغية صدام حسين، بوصلة الإصلاح والتغيير، و بدا أن مجموعة الأنظمة الاستبدادية في المنطقة قد ربحت جولة جديدة في كفاحها من أجل البقاء، وعادت أصوات دعاة الانتقال الديمقراطي والحقوقي مبحوحة، حتى أن هؤلاء فضلوا الانكماش على أنفسهم خيفة اتهامهم بالعمالة و الرغبة في الوصول إلى الحكم على ظهر الدبابة الأمريكية.
لكن الثورة الشعبية التونسية، التي لم يراهن على اندلاعها أحد، لا داخل تونس و لا خارجها، أعادت تركيب المشهد العربي فيما يبدو، فلأول مرة في التاريخ العربي المعاصر يفلح شعب أعزل في دفع حاكمه الشمولي إلى الفرار، إذا ما استثنينا الثورة السودانية ضد نميري التي لها ملابسات خاصة، ولأول مرة منذ سنوات تنقلب الطاولة ويحشر الحكام العرب في الزاوية.
إن المتأمل في خصائص الشعب التونسي، يدرك أنه قد حان الوقت فعلا ليتمتع بنظام سياسي ديمقراطي، ومن هذه أن التونسيين هم المجتمع الأكثر تجانسا وانسجاما في العالم العربي، وأن المشروع المجتمعي البورقيبي المضاد لأي تمايز قبلي أو اثني أو ديني، قد وفر قاعدة صلبة لفكرة المواطنة التي هي قاعدة كل ديمقراطية، و أن ارتفاع مستوى العيش والمساواة الحقوقية بين المرأة والرجل و وجود طبقة وسطى عريضة و نسبة أمية قليلة، كلها عوامل مساعدة لعبت دورا في إنجاح الثورة و فتح مجالات التغيير السياسي.
بل لعل المفارقة الإشارة إلى أن الأجيال التونسية الشابة، التي كانت تسمى بأجيال التغيير، في إشارة إلى أنها ولدت في غالبيتها زمن حكم الرئيس بن علي المسمى طويلا برجل التغيير، هي من أشعلت الانتفاضة و أطاحت بهذا التغيير، وهي أجيال في العشرينيات من العمر، استفادت من مواصلة الدولة التونسية العمل بالتزاماتها البورقيبية في مجانية التعليم والصحة.
بقي أن أهم الاختبارات المطروحة على التونسية، و ستلعب نتائجها دورا حاسما في تحديد مستقبل الثورة، وما إذا كانت فعلا ستفضي إلى بناء نظام ديمقراطي مستقر، هو اختبار quot;الوفاقquot;، حيث أن الانقسام الفكري والسياسي بين الأحزاب والتيارات العاملة في الساحة التونسية على أشده، و حيث أن الإصلاحات الدستورية والقانونية المطلوبة تقتضي حدا من الاتفاق بين شركاء الوطن حتى يكون بالمقدور إمضاؤها.
لقد بدت المطالبات بإلغاء الدستور، بدل تحويره، في رأيي مجازفة غير محسوبة، فإذا كان من المجمع عليه فساد الكثير من مواد الدستور التونسي الحالي، و أهمية الاستعاضة عنها بمواد جديدة ملائمة لقيم الديمقراطية والمواطنة، فإنه من غير المؤكد قدرة التونسيين حاليا على إيجاد مخرج لقضية طبيعة الدولة و شكلها، وصياغة ديباجة تضاهي عبقرية الديباجة الحالية التي صاغها أباء الحركة الوطنية التونسية بمنتهى الذكاء، على نحو حققت للمحافظين رغبتهم في التنصيص على هوية البلاد العربية الإسلامية، بينما أرضت أيضا تطلعات التقدميين بوضع مسافة بين الدين والدولة.
إن المرء ليصاب بالهلع عندما يقرأ كتابات وتصريحات بعض الإسلاميين واللائكيين التونسيين، ويرى تحركاتهم على أرض الميدان، ويتساءل عما إذا كانت هذه التيارات قادرة فعلا على تحقيق وفاق على أسس الدولة والنظام الجديدين، يضمن تدفق الانتقال الديمقراطي و استقرار النظام السياسي و احترام قيم التسامح والتعايش بين التونسيين.
لقد مضى على مسيرة الإصلاح في تونس زمن طويل، وهي أول دولة عربية تحتفل هذا العام ndash; و يا لمحاسن الصدف- بمرور 150 عاما على كتابة أول دستور، لكن دستور 1861 المشار إليه قد وجد نهاية قريبة بعد ثلاث سنوات فقط ومن خلال ثورة شعبية، سميت بثورة علي بن غذاهم، اندلعت من محافظة القصرين التي قادت الثورة الأخيرة أيضا، وكان على رأس مطالب الثوار إلغاء الدستور..
كل الأمل معلق على أن تمضي هذه الثورة إلى الإعلاء من مكانة الدستور واحترام القيم و المؤسسات الدستورية، و أن تضرب تونس مثلا في الديمقراطية مثلما ضربت من قبل مثلا في الإصلاح والثورة الشعبية، وأن يضرب التونسيون مثلا في تحقيق القدر المطلوب من الوفاق والاتفاق حول قضاياهم الرئيسية و رهاناتهم المستقبلية.,,و إلا فإن صبر بعض المتنفذين على الجدل و الحوار قليل..