السادة قادة حزب النهضة تحية طيبة،
أبدا بتهنئتكم على فوزكم الكبير في انتخابات المجلس التأسيسي و بعد،
لقد تابعت باهتمام نبا اجتماعكم الأخير مع إدارة البورصة في تونس، بعد التراجع الذي شهدته نتيجة قلق المستثمرين من وصولكم إلى السلطة. و اقدر أن تصريحاتكم بعد الاجتماع المذكور، التي أكدت التزامكم بدعم بيئة الاستثمار و تطوير سوق الأوراق المالية في الدولة قد نجحت في طمأنة الجميع، بدليل أن المؤشر العام لأسعار الأسهم في البورصة ارتد صعودا اثر ذلك، بحوالي 3%. لكن استرجاع نفس البورصة ليوم واحد لا يكفي، كما أن الاقتصاد التونسي يتجاوز نشاط البورصة بكثير. و من هنا تأتي أهمية الاستئناس بأهل الاختصاص للتعرف على ما يتوجب القيام به لانجاز مهمة الإصلاح الاقتصادي الشامل ( و اسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
و بما أن المقصود بالذكر في هذه الحالة يخص مبادئ علم الاقتصاد الحديث، و بما أن حظي شاء أن أكون من أهله، فقد رأيت انه من واجبي أن اشرح لكم ما يتوجب القيام به فيما يخص الإعلان عن السياسات، و أهمية الفريق الاقتصادي الذي توكل له مهمة تنفيذ السياسات المعلن عنها، و كذلك الإطار الأفضل لمساعدة الحكومة في صياغة السياسات و مراقبة عملها في مرحلة التنفيذ.
1. الدور الأساسي لمصداقية السياسات المعلنة
طور علم الاقتصاد الحديث نظرية في هذا الشأن تسمى
quot;Theory of Credible Announcementsquot; مفادها أن النجاح لا يحالف إلا السياسات المعلنة التي يصدقها السوق. على هذا الأساس، تمكنت بعض دول أمريكا الجنوبية من وضع حد لنسب التضخم الجنونية التي كانت تتجاوز 1000% خلال بضعة أشهر في عقد الثمانينات من القرن الماضي، و ذلك بمجرد تقديم برنامج متكامل اقتنع العموم بجدية الحكومة في الالتزام به و العمل على تنفيذه.
تستمد بعض المؤسسات و الحكومات مصداقيتها من ممارساتها في الماضي بعد أن جربتها الأسواق و تأكدت تحقيقها لما التزمت به، و من أمثلة ذلك المصارف المركزية في دول مثل أمريكا و ألمانيا (قبل اعتماد اليورو). لكن، و بما انه لا يمكن لتونس اليوم الانتظار لسنوات طويلة، أرى انه يتوجب عليكم دعم مصداقية حكومتكم الحالية باتخاذ قرارات فورية، بدءا بالإعلان عن إعطاء المناصب الوزارية ذات العلاقة للخبرات المتميزة، مثل الإبقاء على خبير سيتي بنك السابق، السيد جلول عياد في منصب وزير المالية و تعيين مجموعة من أفضل ما يتوفر في تونس في مجال المال و الأعمال على رأس الوزارات و الهيئات الاقتصادية الرسمية في الدولة، و التوجيه بإعداد قانون جديد حول استقلالية البنك المركزي.
2. أوصيكم بمصطفى النابلي رئيسا للفريق الاقتصادي
بما انه لا يكفي تعيين وزراء أكفاء في مجال الاقتصاد و المالية، لذلك نجد أن أفضل الممارسات العالمية - بما في ذلك في الدول النامية ndash; قد عملت على إيجاد فريق اقتصادي متجانس، أي انه من نفس الخلفية و يشترك في نفس الأهداف و نفس طريقة العمل. و لقد تحقق هذا حتى في ظل الديكتاتورية على يد ما سمي بفريق quot;فتيان شيكاغوquot; في دولة تشيلي أيام الجنرال بينوشي، و على يد ما سمي في اندونيسيا بــ quot;مافيا باركليquot; (نسبة إلى الاقتصاديين المتخرجين من جامعة باركلي الأمريكية) الذين نجحوا في مضاعفة معدل دخل الفرد ثلاث مرات في تلك الدولة، خلال الفترة 1970 - 1993.
أفضل من يمكن أن توكل إليه مسؤولية قيادة الفريق الاقتصادي في تونس اليوم هو المحافظ الحالي للبنك المركزي، السيد مصطفى النابلي. فالمعرفة التي توفرت لديه في المجال الأكاديمي و بحكم منصبه السابق ككبير الاقتصاديين بالبنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، قلما توفرت لغيره من التوانسة. كما أن عدم وجود عداوة له مع أي من الأطراف المكونة للائتلاف الحكومي الجديد تعني أن تكليفه بهذه المهمة لن يلقى أية معارضة تذكر من أي كان.
3. أهمية إنشاء مجلس أعلى للتنمية الاقتصادية
بتنفيذ التوصيتين أعلاه، تبقى تونس في حاجة إلى هيئة عليا لمساعدة الحكومة في صياغة الخطوط العريضة للسياسات الاجتماعية و الاقتصادية و تقديم مقترحات للتعامل مع مشاكل معينة (مثل عدم ملاءمة مخرجات كلية جامعية مع متطلبات سوق العمل، أو إنشاء مدينة صناعية متخصصة في منطقة ما، أو إصدار قانون معين ثبت نجاحه في الدول الأخرى...).
و تتمثل المهمة الثانية للمجلس في متابعة تنفيذ ما تقوم به الحكومة و الأجهزة التابعة لها، بحيث يتم تلافي أوجه النقص بسرعة. و بما انه لا يمكن التعويل على نفس الجهاز في تقييم ما يقوم به، بادرت عدة مؤسسات بالاعتماد على التقييم الخارجي. و يمكن أن يتحقق هذا بالنسبة لتونس اليوم بإنشاء مجلس أعلى للتنمية الاقتصادية يقدم توصياته و تقاريره مباشرة لرئيس الحكومة (و رئيس الدولة). و هنا أرى في شخصية السيد منصور معلى الرجل المناسب و ذي الخبرة الواسعة و التجربة الناجحة في مجالات المال و الأعمال، ما يؤهله لرئاسة هذا المجلس في المرحلة الأولى، مع التنويه بضرورة توفير الموارد اللازمة له للقيام بمهامه على أحسن وجه.
و العقل ولي التوفيق...
[email protected]