كانت زيارتي الأخيرة لتونس - وهي الأولى لي منذ سنوات - فرصة للتعرف عن قرب عن الحالة الراهنة للبلاد وآفاق المستقبل.
بالرغم من حالة الهيجان والانفلات التي عقبت سقوط النظام السابق، وجدت التوانسة في معظمهم قد حافظوا على درجة عالية من الموضوعية والعقلانية عند تقييم الوضع في البلاد. معظم الذين تحدثت إليهم لا ينكرون الانجازات التي تحققت في عهد الرئيس السابق في مجالات التعليم (تعميم التعليم الابتدائي والثانوي ومضاعفة نسبة الالتحاق بالجامعات 3 مرات...)، تعزيز حقوق المرأة (حصول المرأة على الجنسية التونسية لأبنائها المولودين في الخارج، تكريس المساواة بين الزوجين وتمكين المرأة من القيام بكافة الإجراءات المتبعة في المحاكم...)، وفي مجال البنية التحتية، خصوصا في المدن الكبرى والمناطق الساحلية.
لكن العقد الأخير من حكم بن علي شهد أيضا سلبيات ملحوظة لعبت دورا أساسيا في سقوط النظام. معظم الأحياء التي كنت اعرفها جيدا في السابق لم يطرأ عليها أي تحسن يذكر. الواضح إن البلديات تحولت مع مرور الزمن إلى جهاز جمع الأموال لصالح الحزب الحاكم، عوض إنفاقها لما فيه الصالح العام. كما فشل نموذج الــ 5% نمو سنوي - الذي استطاع بن علي المحافظة عليه خلال العقدين الماضيين ndash; من الحد من البطالة التي بقيت بحدود 14-15%، والتي تفاقمت في صفوف الشباب خريجي الجامعات، الذين وصل عددهم إلى 150 ألف عاطل، وكونوا مع اندلاع الشرارة الأولى للاحتجاجات، جيش احتياط ساعد على المحافظة على زخم الانتفاضة الشعبية ومكنها في اقل من شهر من تحقيق النصر النهائي (انظر مقالي بعنوان قنابل موقوتة انفجرت في وجه بن علي ومبارك).
مع انكشاف ما كان مستورا في السابق، حصلت صدمة كبيرة لدى الرأي العام، الذي لم يكن يتوقع يوما أن رئيسه كان يدخن الكوكايين قبل الاجتماع بوزرائه وانه كان يحتفظ شخصيا بجزء كبير من أموال صندوق التضامن الاجتماعي quot;2626quot; في خزائن تم بناؤها خصيصا لهذا الغرض بالقصر الرئاسي. وهي الصدمة التي أدت إلى فقدان كامل للثقة. لذلك أصبح نفس المواطن الذي يعترف ببعض الانجازات التعليمية للنظام السابق يركز بصفة أهم على النقائص، مثل انهيار مستوى التعليم وعدم ملاءمة مخرجات الجامعات لمتطلبات سوق العمل. كما زاد التذمر من اتساع الهوة بين شرائح المجتمع، في حين فضل سكان بعض المناطق النائية والمهمشة لغة العنف والاعتصامات، مما أدى إلى شلل بعض الأنشطة الاقتصادية بالكامل.
مع هذا تبقي أغلبية التوانسة على درجة عالية من التعقل، رافضة التطرف والمبالغة والتسرع في الأحكام. ربما يكون د. منصف المرزوقي احد الذين تلقوا درسا قاسيا على هذا المستوى بخسارته ثقة الشارع غداة إعلانه المتسرع - حال أن وطأت قدماه مطار تونس - عن ترشحه للرئاسة، في الوقت الذي كانت البلاد تعيش فيه حالة من الذعر والانفلات الأمني. لذلك بقي نصيب حزبه ndash; حزب المؤتمر من اجل الجمهورية ndash; بحدود 4% في استطلاعات الرأي، أي نصف ما يحصل عليه حزب يصنف على انه راديكالي، مثل حزب العمال بقيادة حمة الهمامي.
سوف تمثل انتخابات المجلس التشريعي يوم 23 أكتوبر المقبل بلا شك أول اختبار حقيقي لعقلانية الناخب التونسي ومدى قدرته على اتخاذ القرار المناسب. المشاركة سوف تكون كبيرة بناء على نتائج أخر استطلاع للمؤسسة العالمية لمراقبة نظم الانتخابات، الذي عبر فيه 92% عن عزمهم على المشاركة. الحركة الإسلامية - حزب النهضة ndash; التي تأتي في طليعة استطلاعات الرأي لن تحصل على أكثر من 20 ndash; 25% من مجموع المقاعد، بحكم طبيعة المجلة الانتخابية التي توفر فرصة للمستقلين والأحزاب الصغيرة.
لذلك اعتقد أن الائتلاف الأكبر سوف يكون من نصيب quot;الائتلاف الديمقراطي الحداثيquot; الذي سيرى النور بعد الانتخابات، وسوف يكون على الأرجح بقيادة الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يتزعمه الأستاذ نجيب ألشابي، والذي ينافس حاليا النهضة في عدد أصوات الناخبين، مما سوف يسمح له بلم شمل الأحزاب الأخرى القريبة منه إيديولوجيا (التكتل من اجل العمل والحريات بقيادة د. مصطفى بن جعفر، حزب التجديد بقيادة احمد إبراهيم، وحزب العمال، بالإضافة لقيادات الاتحاد التونسي للشغل الذين سيشاركون في الانتخابات كمستقلين).
انتخابات التأسيسي المقبلة في تونس سوف تكون على الأرجح حبلى ببعض المفاجآت. المفاجأة الكبرى - من وجهة نظري ndash; قد تكون عودة حزب الدستور بتسميته الجديدة القديمة -الحزب الحر الدستوري التونسي- والتسميات التي خرجت للعلن اثر تجميد أنشطة الحزب الحاكم في عهد بن علي، مثل حزب المبادرة وحزب الوطن. خيار هؤلاء الطبيعي سوف يكون لصالح قوى الحداثة، وفاء لباني الدولة التونسية الحديثة ndash; الزعيم الحبيب بورقيبة ndash;، وأيضا من باب الواقعية السياسية لان هؤلاء يدركون أكثر من غيرهم أهمية تجنيب تونس الوقوع في مخالب قوى التطرف والردة والمغامرات غير محسوبة العواقب.
فهل ستكون القوى المؤتمنة على مستقبل تونس كدولة ديمقراطية حداثية ومنفتحة على محيطها الأوروبي والعالمي في مستوى المسؤوليات الملقاة على عاتقها؟ هذا السؤال موجه في الوقت الحاضر إلى القلاع المحصنة ضد قوى الردة والتخلف والعودة إلى الماضي السحيق، وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي التقدمي والتجمع والتجديد والدستوريون الأحرار وحزب العمال، فهل من مجيب؟
[email protected]