ما أن حصلت الدولة التونسية على استقلالها بأقل التكاليف حتى تمت الدعوة لانتخاب المجلس القومي التأسيسي يوم 25 مارس 1956. بطبيعة الحال، لم تكن تلك الانتخابات تنافسية بمعايير اليوم، لكن الجبهة القومية التي تم تكوينها لخوض غمار الانتخابات كانت ممثلة إلى حد كبير للمشهد السياسي آنذاك، إذ شملت، بالإضافة للحزب الحر الدستوري الحاكم، كلا من الاتحاد التونسي للشغل و اتحاد الأعراف و الاتحاد القومي الفلاحي. و أتت العزائم اثر ذلك على قدر أهل العزم. فبهدي من زعيم الاستقلال و باني الدولة المستقلة الحديثة الحبيب بورقيبة، تمت صياغة الدستور و صدر قانون المرأة في شهر أغسطس من نفس السنة، و أعلنت الجمهورية، بالتوازي مع البدء الفوري و الجاد لنشر التعليم و تطوير الاقتصاد.
لعل من سخرية القدر أن يتم استدعاء التوانسة بعد ستة عقود من ذلك التاريخ لإعادة اختراع العجلة، بدعوى انتخاب مجلس لكتابة دستور جديد للبلاد، و الحال إن دستور الاستقلال، أي قبل المسخ الذي أصابه من خلال التعديلات التي توالت بعد ذلك، كان بإمكانه أن يكون نسخة أولية يتم البناء عليها لإعداد دستور جديد، مع الاستئناس بدساتير بعض الديمقراطيات، و بمشاركة الخبراء و المفكرين من مختلف الاختصاصات، مع استشارات موسعة تشمل كافة الطوائف السياسية و منظمات المجتمع المدني دون الحاجة إلى انتخابات و مجلس تأسيسي.
اكتشف المواطن العادي بالفطرة عبثية المسعى، و زادت الريبة و الحذر و هو يرى الأحزاب السياسية و قد زاغت في حملاتها عن الموضوع الرئيسي للمجلس و مهامه و الفترة المحددة له، مفضلة تقديم وعود شعبوية غير قابلة للتطبيق، مثل القفز بنسبة النمو الاقتصادي السنوي إلى 7% (النهضة) إلى دفع رواتب إلى نصف مليون بطال (الهاشمي الحامدي صاحب قناة المستقلة) إلى توفير 100 ألف موطن شغل في القطاع العام (التكتل). كما تمت كتابة مجلدات تم تسويقها على اعتبارها برامج اقتصادية و اجتماعية، و كان مهمة التأسيسي تتمثل في تحديد السياسة الاقتصادية للبلاد لا صياغة الدستور، أشهرها برنامج النهضة المتكون من 360 نقطة و الذي لم يقراه معظم أعضاء الحركة نفسها، ناهيكم عن الآخرين.
أدى هذا إلى برودة الحملة الانتخابية في بادئ الأمر، و إن تم تجاوز ذلك ا نسبيا يوم الانتخاب بمشاركة فاقت التوقعات. ثم جاءت تشكيلة المجلس الجديد مستبعدة مناضلين شرفاء ضد الاستبداد السابق، من أمثال المناضل حمى الهمامي، و هو الزعيم الوحيد الذي تطاول على بن علي من داخل البلاد و طالبه بالرحيل أيام قليلة قبل هروبه في 14 يناير الماضي، و زوجته المحامية راضية النصراوي، التي عرفها ضحايا بن علي مدافعة شرسة عن قضاياهم العدلية، و المرشحة لجائزة نوبل للسلام منذ سنوات. كما جاء المجلس خالي الوفاض من الشباب ndash; مفجري الانتفاضة ndash; و من الاتحاد العام التونسي للشغل و من المثقفين و المفكرين و الخبراء القادرين أكثر من غيرهم على صياغة الدستور.
أمام فشل حركة النهضة الإسلامية في الحصول على الأغلبية و تخوفها من الفشل المنتظر في رفع التحديات التي تهم المواطن، و هي الحد من البطالة و إعادة عجلة الاقتصاد إلى الدوران، و بما أن كتابة الدستور من عدمه لا تعني الرأي العام، لم يكن أمام النهضة من خيار غير تحالفها مع أحزاب متكونة أساسا من نشطاء حقوق الإنسان يختلفون معها في مفاهيم الحرية و الحقوق المدنية و المساواة، ممثلة في حزب المؤتمر بقيادة د. منصف المرزوقي و التكتل بقيادة د. مصطفى بن جعفر، بالإضافة إلى بعض قيادات المركزية النقابية، و ذلك في محاولة للتملص بتشريك الآخرين في تحمل المسؤولية.
من ناحية، سوف يلعب حلفاء النهضة الجدد دور طابور خامس ndash; بالمعنى الايجابي للكلمة ndash; في عملية مراقبة دائمة لما يحصل، من منظور المعايير الدولية لحقوق الإنسان لا من منظور النهضة، و هذا عامل ايجابي. لكن في المقابل، يوجد خطر حقيقي نتيجة توزيع المناصب الوزارية على النهضة و حلفائها السياسيين، على حساب الخبرات الاقتصادية و العلمية التي لا إدارة ناجحة للاقتصاد الحديث من دونها، و هو ما يؤشر لانهيار اقتصادي قادم سوف يكون من الصعب تحمل تبعاته.

[email protected]