نسيت تماما أين و متى إلتقيت الدكتور عبد الحسين شعبان لأول مرة؟ ربما كان ذلك قبل ما يزيد عن عقد ونصف الزمان في لندن أو لاهاي أو بيروت أو الجزائر أو عدن..إذ ثمة أشخاص تنسى أين ومتى إلتقيتهم للمرة الأولى، ليس لأنهم لم يكونوا مهمين بالنسبة لك، إنما لأنهم من فرط ارتباطك اللاحق بهم يتهيأ لك أنك تعرفهم منذ أمد طويل، و ربما منذ ولدت!؟
ود.عبد الحسين ليس من النوع الذي يحاول التبشير بأفكاره أو دعوة الآخرين قولاً لاعتناقها، لكنك إذا ما عاشرته وقرأت له، تجد نفسك متفاعلاً مع رؤاه النقدية وأطروحاته الأكاديمية ووجهات نظره إزاء قضاياه الأثيرة، العدالة الاجتماعية والحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤمنا برسالته الإنسانية العميقة و دعوته الصامتة، النافذة، إلى عالم يسوده التسامح و تغمره محبّة الحياة.
ود.عبد الحسين شعبان، الذي تجده دائم الإعتزاز بأصوله النجفية، اليمانية، المنتشرة في أرجاء العالم العربي والإسلامي، خلطة خاصة من التجارب الإنسانية المتنوّعة الجامعة بين الاستيعاب النظري لمجمل الأفكار والعقائد والآيديولوجيات المؤثرة في عصره وبيئته، حيث تربّى وترعرع واشتدّ عوده، والسيرة العملية المكتسبة من تجوال في أرض الله الواسعة، أخذته في ما يشبه السيرة الهلالية المعاصرة إلى دمشق وبيروت وموسكو وبراغ ولندن وهافانا ومدن أخرى شرقية وغربية يصعب عدّها، بين مقيم ومار، وطالب علم وأستاذ، وباحث عن المعرفة وخبير فيها.
وقد بدت سيرة quot;أبا ياسرquot; أشبه ما يكون برحلة الصوفي المتطلّع إلى مرحلة الإشراق، مقامات متتالية، ابتدأت في فضاء الحوزة النجفية المقدسة، وتطورت في أجواء الماركسية اليسارية، وانطلقت في فضاء الفكر التجديدي العربي، حيث quot;تحطمت المراياquot; وتكرّست نزعة المفكر النقدية، إلى أن وقفت بباب التسامح الديني وحوار الثقافات والحضارات وإعادة بناء العقل العربي الإسلامي على أسس ترفع كل تناقض بين العلم والإيمان، وبين المبادرة الفردية والعدالة الاجتماعية، وبين الحرية والمسؤولية.
وكسائر المفكرين الأحرار، ممن آمنوا بأن الحرية هي شرط الفكر الأول، وكفروا دائماً بالمحدّدات و القوالب المصبوبة الجاهزة، فقد واجه د.عبد الحسين شعبان هجومات العقائديين الشرسة، سواء أكانوا رفاق الأمس من شركاء رحلة النضال اليساري، أو رموز الكهنوت الآيديولوجي من الذين يقيّمون المفكرين والكتاب والباحثين بحسب قربهم أو بعدهم من دائرة الإيمان السماوي أو الأرضي، لا اختلاف في ذلك.
وعلى الرغم من أنه ليس من النوع الصدامي، فإن شعبان المفكر العربي العراقي، لم يتوانَ عن خوض معارك هنا وهناك، ضد هذا التيار أو ذاك من داخله ومن خارجه، وفي ذلك المنتدى، أو تلك المؤسسة التي ساهم في تأسيسها، من أجل ما يعتقد أنه التزام بمبدأ أخلاقي أو قاعدة قانونية، ولم يتردد في أكثر من مرّة من إشهاره لاستقالته من هذا المنصب أو ذاك غير مبال بالنتائج، طالما كانت ترضي ضميره، سواءً بالاعتراض على توجّه يعتبره خروجاً على الثوابت الوطنية والإنسانية، أو تجسيداً لمبدأ التداول على كرسي المسؤولية، أو لإتاحة الفرصة أمام ضخّ دماء جديدة، و قد استمر في سلوكه هذا خارج كافة دوائر الحسابات و المؤامرات والانقلابات، حتى وإن كان غير مشمول برعاية الأحزاب و القبائل واللوبيات، وأحياناً غير معنيّ بإثارة غضبها، لاسيما المولعين بإطلاق العلامات والتصنيفات والتوصيفات الجاهزة وما أكثرهم، بل أنه كان أحياناً يستطرف باستفزازهم بآراء جديدة أو استنتاجات غير مألوفة أو بوجهات نظر لا يستطيعون التوصل اليها، وعندما كان يفضل ذلك، فإنه يتصرف بكل عفوية ودون قصد أو تكلّف.
وإن روح النقد التي تسكن جنبات د.عبد الحسين شعبان، هي التي وجهت اهتمامه وريادته إلى استباق كثير من رفاقه الشيوعيين في التأمل في الحالة الماركسية والدعوة إلى مراجعة تجارب الماركسيين، وهي التي دفعته أيضا إلى الانفتاح على مدارس الفكر العربي المتباينة، دون عُقدٍ سواءً كانت جموداً أو ميوعة، لكنها كانت بقدر وجدانيتها تعبيراً عن قراءة جديدة للواقع وتموّجاته ومنقلباته، فما كان بنظر quot;الرفاقquot; ناراً تكوي كان بنظر النجفي الأحمر مغامرة تستحق أن تخاض، وما كان بنظرهم محرّماً يكفّر ممارسه، كان بنظر النجفي الماركسي المؤمن، الفريضة الغائبة التي لا مناصّ من تحمّل مسؤوليتها.
ولعل أهم ما يميز رحلة د.عبد الحسين الفكرية، التي أسأل الله أن يطيلها ما أمكن، والتي يخصّ بعض جوانبها في كتابه quot; تحطيم المرايا ndash; في الماركسية والاختلافquot; مع محاوره الناقد خضير ميري إصراره على أن لا تكون دراساته وأبحاثه، بما فيها مقالاته مجرد تأملات نظرية مستندة إلى كمّ عظيم من الوثائق والمصادر والمراجع، كما يلاحظ بيسر كل قارئ كتب ومؤلفات هذا المفكر المستنير، بل سعى لأن تكون قراءات في تجارب الحكومات والدول، سواءً تعلّق الأمر بدول المنظومة الاشتراكية السابقة، أو بنماذج الحكم اليساري في أمريكا اللاتينية، أو بحكومات العالم العربي العجيبة الغريبة في تشابهها و تنافرها على السواء.
وإن إصرار د.عبد الحسين على الربط بين التأمل النظري والقراءة التطبيقية، إنما يعود في أصله كما أعتقد إلى تلك النزعة الإنسانية النبيلة المتغلغلة في فكر وعقل الرجل، فهو وإن كانت له قناعاته الثابتة بقيم و مبادئ طالما ناضل وضحّى من أجلها، فإنه لم ينس يوماً تذكير نفسه و أخذها بحزم على الاعتقاد بأن أفكار و تجارب البشر متبدّلة، متقلّبة، وأن ما كان مستحيلاً اللقاء في الستينيات من القرن العشرين بين الماركسيين والعروبيين، كذلك اللقاء بين القوميين العرب والإسلاميين، فقد بدا حتمياً ضرورياً في مطلع القرن الحادي و العشرين، و أن الربط بين اليسار و معاداة الدين كما ظهر في النصف الأول من القرن العشرين، عاد أمراً سخيفاً في مطلع القرن الحادي و العشرين.
ولم يغفل شعبان في قراءاته الانتقادية ومراجعاته الفكرية انتقاد نفسه وتشخيص، بل وتخطئة بعض مواقفه كما فعل في كتابه المثير quot; تحطيم المراياquot; الذي يحتاج الى دراسة مستقلة، في جوانبها النظرية والتطبيقية، ولهذا فعلينا أن نقرأه كلّه وليس بتجزئته.
لقد كافح د.شعبان بلا كلل أو ملل طوال عقود من الجهد التنظيري والعمل الفكري والسياسي، من أجل أن يحطّم الإنسان العربي خجله من رؤية نفسه عاريا أمام المرآة، وأن يتعامل مع عيوبه واعوجاجاته و ضعفه و أخطائه بالصراحة و الجرأة و الشجاعة المطلوبة، فبدون هذا التحطيم و هذا التعامل ما كان ليستقيم الطريق أمام المشروع النهضوي الديمقراطي في العالم العربي، بكل ما يعنيه من فتح لآفاق التعايش و التسامح والتواصل أمام أجيال الأمة على اختلاف وتباين رؤاها وبرامجها.
إن مشقة التصدي لسلطة الآيدولوجيا و تجلياتها الحزبية المهيمنة، مع رغبة شديدة في المحافظة على طابع أخلاقي محترم وإيجابي وقور ورزين، ولكن دون مجاملة أو مهادنة، للصراع الناتج عن هذا التصدي، هي مغامرة ركب موجها العالي د.عبد الحسين شعبان وتمكّن كما أجزم في صياغة معادلتها وتحقيق الفوز فيها، تماماً كما كسب احترام كل المتابعين لفصولها، ولم يكن ذلك ليحدث لولا هذا المعدن النجفي الأصيل، وهذا العمق الماركسي المُشبع بروح العدالة والإنسانية.

*كاتب وإعلامي تونسي - الأمين العام لمركز دعم الديمقراطية في العالم العربي- هولندا ndash; روتردام