لن يتمكن التونسيون من القول بأن ثورتهم قد نجحت وأن دولتهم قد أصبحت ديمقراطية فعلا، إلا إذا تحولت وزارة الداخلية من قلعة حصينة يلفها الغموض وتسيرها أشباح مرعبة، إلى وزارة عادية ردهاتها كما طرق تسييرها مكشوفة للجميع، والوزير المشرف على إدارتها quot; ابن امرأة من سيدي بوزيد مثلا، تأكل القديد، ويمشي هو بين الناس في الأسواق آمنا على سربه معافى في بدنه، يملك فقط قوت يومهquot;.
و وزارة الداخلية التونسية ليست وزارة عادية بالنسبة للدولة التونسية، بل بالمقدور الإقرار بأنها quot;الدولة العميقةquot; في تونس، تماما كما تشكل quot;المؤسسة العسكريةquot; الدولة العميقة في تركيا، ومثلما لعب العسكريون الأتراك وما يزال بعضهم يفعل إلى اليوم، دور قوة جذب إلى الوراء وعرقلة للمسار الديمقراطي، فإن القادة الأمنيين في تونس قد لعبوا وما يزال بعضهم يفعل، دور المعرقل لكل محاولة لدفع البلاد نحو حكم ديمقراطي حقيقي.
و عند تأمل مشهد الحكم التونسي الراهن، فإن لا شيء ذي قوة فيه ينم عن أن ثورة شعبية عظيمة قد جرت قبل أشهر قليلة، فرئيس الحكومة المؤقتة هو أحد بناة وزارة الداخلية بمعالمها الاستبدادية المعروفة، وقد كانت أول إجراءاته quot;الثوريةquot; إزاحته للسيد الراجحي quot;المواطن العادي الوحيدquot; الذي أدار لأسابيع معدودة هذه الوزارة الدولة، وأحل في محله رجلا غامضا ذو وجه بلا ملامح أو عاطفة تقريبا، يلبس نظارات سوداء، ويذكر التونسيين عامة بأكثر فترات الحكم السلطاني قتامة، بسنوات الجمر، سنوات التسعينيات القميئة الشريرة، عندما كان رجال بررة من تونس يتقيأون الدم في أقبية ذلك المبنى الرمادي الرهيب دفاعا عن أمل في آخر النفق.
و يزيد من غموض الموقف وشبهة مشروع الحكومة الانتقالية، إصرار السيد الباجي المريع على التمسك برجله الغامض على رأس وزارته الغامضة، وهو الذي يرفض مغادرة قلعته المنيعة إلى مقر هيئة تحقيق أهداف الثورة للإجابة على بعض الأسئلة المحتشمة، ويأبى إلا أن يأتيه إلى مقر جيشه، وبين أعوانه الميامين، وفد من جماعة السيد إبن عاشور، طالبين السماح والغفران مسبقا لأنهم سيزعجون سيادته ببعض الأسئلة غير المؤدبة أو اللائقة، خصوصا وأن أعمار بعضهم لم تبلغ بعد سن الرشد حسب المقاس الحكومي الجديد الذي وضعه رئيس الحكومة المؤقتة لهذا السن، على نحو أصبح معه الشباب في حدود السبعين.
و كما يعرف المتابعون لمسار تطور الدولة التونسية المستقلة، فإن الرئيس بورقيبة قد راهن في إخضاع الساكنة وتحقيق مشروعه التحديثي على القوة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية لا وزارة الدفاع، وكان من أولى خطواته أن وظف رجال ثورة 1952 المسلحة في سلك الحرس الوطني، وكانوا بالتالي أول قوة ضاربة لإرهاب المواطنين وتلقينهم درس الخضوع للدولة، التي ستتفرغ لاحقا لتثبيتهم في أماكنهم في القرى والمدن الجديدة، تمهيدا لإدخال أبنائهم إلى المدارس وتقريب المرافق الخدمية والإدارية إليهم.
و في أي حديث قد يجري عن الطابع الاستبدادي والديكتاتوري للدولة التونسية المستقلة، فإنه سيجري الحديث حتما عن وزارة الداخلية باعتبارها المسئول الأول عن تحقيق وتكريس هذا الطابع، فالتعذيب الذي مورس في السجون والمعتقلات وحملات التنكيل بالمعارضين وحبك المؤامرات والدسائس وتلفيق التهم الكيدية لهم ومتابعتهم اللصيقة والتجسس عليهم والتنصت على حياتهم الخاصة ومكالماتهم الهاتفية وتزوير الانتخابات الشكلية وإرهاب عموم المواطنين وجعلهم لعقود يسيرون ويتلفتون وراءهم quot;يمشون طوعا على العجين ما يلخبطوهشquot; والتلاعب برخص الأحزاب والجمعيات ووسائل الإعلام وصناعة الديكور الموالي منها، جميعها بعض مكارم هذه الوزارة القرقوشية.
و كان وزير الداخلية زمن بورقيبة مرشحا باستمرار لشغل منصب الوزير الأول ولخلافة الرئيس، وقد تحققت النبوءة بامتياز عندما تمكن وزير الداخلية زين العابدين من القفز بمهارة وسرعة إلى أعلى هرم السلطة..و في زمنه البديع أصبح وزير الداخلية منصبا quot;إرهابيا نازياquot; يتولاه عادة رجل quot;ليس في قلبه ذرة رحمةquot; ويعرف كيف يخاطب الملوك وينفذ بوفاء وإخلاص لعينين أوامر الديكتاتور، قبل أن ينطق بها الديكتاتور أحيانا.
و يبدو عبد الله القلال وزير الداخلية الأبطش كالحمل الوديع اليوم، مثيرا للشفقة وعليلا بعديد الأمراض، ليس من بينها بالطبع تعذيب الضمير، خصوصا بعدما تحدث السيد الباجي عن quot;هيبة الدولةquot; باعتبارها أعظم إنجاز حققته الجمهورية للتونسيين، ولمن يعلم أو لا يعلم فإن هيبة الدولة هي بالأساس من صناعة وزارة الداخلية، وبدل محاكمة السيد القلال عن جرائم التعذيب المريعة التي ارتكبت تحت إشرافه، تماما كما فعل القاضي السويسري، فإنه يحاكم اليوم في تونس لبعض جنح بسيطة يشك في أنه ارتكبها، وليس ذلك مرد التحفظ عليه في ثكنة العوينة المريحة، إنما التحفظ قد جاء من قبل الحكومة الباجية السعيدة خوفا على سلامته من بعض الغوغاء والدهماء، ممن لم يفهموا أن الثورة التونسية رحيمة بأعدائها شديدة على أبنائها.
حصن الباستيل هذا الذي احتضن ورعى لمدة تزيد عن نصف قرن أقذر الممارسات التي ارتكبتها الدولة التونسية في حق مواطنيها، بسلسلة من الأسانيد والمبررات والأعذار لا انقطاع لها، يجب أن يتحول بأقصى سرعة ممكنة إلى متحف وطني للديمقراطية، يخلد ذكرى شهداء ثورات الشعب التونسي وانتفاضاته المتواصلة ضد القمع ومن أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، وذكرى المعذبين في الأقبية والمنتهكة حقوقهم وأجسادهم دون أدنى اعتذار رسمي من الدولة إلى حد الآن.
و عندما يتحول هذا الحصن إلى متحف، ويتحول وزير الداخلية إلى سياسي عادي، ويتحول رئيس الحكومة إلى جيل يتقزز من هيبة الدولة القمعية، وتتحول الدولة التونسية في مركز قرارها إلى دولة شفافة لا دولة عميقة لا يعرف قرارها أحد، ويتحول رجال الأمن إلى موظفين حكوميين لا يطالبهم رؤساؤهم بخرق القانون بل بحمايته والسهر على تطبيقه أولا..ساعتها فقط بمستطاع التونسيين القول بأن حلمهم ربما أضحى متاح المنال.