من أطرف العبارات التي سمعتها في توصيف حال الحريات السياسية والإعلامية في تونس قبل وبعد ثورة 14 يناير/جانفي 2011، تلك التي تقول أن التونسيين كانوا يعانون من quot;القبضquot; في الماضي، وأصبحوا اليوم يعانون quot;إسهالاquot;، فالأحزاب السياسية تتناسل كالفطر بعد أن كان نظام الرئيس بن علي يقطر على السياسيين الراغبين في تأسيس أحزاب بquot;القطارةquot;، أما المحللين السياسيين الراغبين في المشاركة في الحوارات التلفزيونية والإذاعية أو الكتابة في الجرائد و المجلات، فقد وصل تعدادهم إلى نصف المجتمع تقريبا، وليس من مواطن تونسي راشد إلا وله وجهة نظر وموقف سياسي، و ربما مشروع تأسيس حزب quot; إذ ما فيش حد أحسن من حدquot; كما يقول الأشقاء في مصر، الذين عادت لهم ثورة أيضا، من باب العمل بالمثل نفسه.
و من العبارات الطريفة التي سمعتها من صديقة، طالما عارضت نظام بن علي بشراسة وحلمت باليوم الذي يرحل فيه، قولها quot; كنت أحلم بالحرية، لكنني أشعر اليوم بأن جرعتها في تونس كانت زائدة نسبيا، فبالأمس كنا نختنق من قلة الهواء الحر، واليوم نكاد نغص لفرط قوة هذا الهواءquot;، و العبارة مردها هذا السيل المطلبي العارم الذي عطل العمل و زرع بذور الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات في كل مكان و زاوية، حتى تحول خوف الثوار رعبا خشية أن تصاب الدولة التونسية بالسكتة الدماغية أو القلبية لفرط تدفق الدماء الثورية في شرايين الأمة، فيصير حال المجتمع إلى الفوضى غير الخلاقة، و يجد بعض الشامتين quot;المتخفينquot; فرصة لإبداء حنينهم الجارف لأيام quot;الأمن والأمانquot; وquot;فرحة تونس الدائمةquot;...
من طرائف الثورة أيضا كلمة quot;Degagequot;، فقد كانت بحسب كثير من الثوار ذات معنى، لكنها بعد شهر فقط من مضي الثورة، وتحديدا في عيد الحب يوم 14 فبراير/فيفري 2011، أضحت مبتذلة بلا معنى، فالنادل في المقهى و الحارس في المؤسسة و الممرض في المستشفى والعامل في المصنع والتلميذ في المدرسة، كلهم بادروا إلى تصفية حساباتهم القديمة مع من يعلوهم في المرتبة بترديد هذه الكلمة، بل إن quot;كناتquot; كثيرات على ما بلغني قد أشهرن هذه الكلمة في وجوه quot;الحماواتquot;، و قامت نسوة بطرد أزواجهن أو العكس بكتابة هذا اللفظ على ورقة بيضاء، و صار يخشى ان استمر الوضع على ما هو عليه أن يستعاض عن عبارات السلام المعروفة ك quot;صباح الخيرquot; و quot;مساء الخيرquot; بعبارات مشتقة من الكلمة إياها.
الرؤساء و الوزراء والولاة و المدراء العامين صاروا اليوم quot;ملطشةquot;، بالعبارة المصرية مرة أخرى، ولتعذروني لشدة تأثري بلهجة أهل المحروسة، فقد سمعت في أحد التقارير التلفزيونية التونسية تلميذا في أحد المدارس يحتج لماذا لا يأتي السيد وزير التربية بنفسه ليقف على هول ما ارتكتب مدرسته إذ أسندت لإحدى التلميذات quot;نقطةquot; لا تستحقها، وسيكون من وظائف وزير التربية التونسي من هنا فصاعدا أن يراجع كافة أوراق الامتحان العائدة لأكثر من مليوني تلميذ في سائر البلاد، ليتثبت بنفسه إن كان المدرسون قد منحوا علاماتهم بشفافية أم لا، و إن كان العدل أساس العمران في مؤسساتنا التربوية.
أما وزيرة الصحة فعليها أن لا توكل أحدا لينوبها في مناقشة المحتجين أو المعتصمين أو المضربين، و إلا فإنها ستوصف بأبشع النعوت لعل أخفها أنها متكبرة و أنها لا تنزل من برجها العاجي لتلتقي بالثوار الجدد، أي ثوار ما بعد الثورة، و أنها لا تستجيب لكافة مطالبهم بلا تمييز أو استثناء مرة واحدة، وقد عاد من المطالب المستعجلة أن تكون جميع سيارات الإسعاف مكيفة، و أن يحظى الموظفون و الممرضون و سائر العملة بزيادة فورية في quot;الشهريةquot;.
أحد الاصدقاء ممن كانت لهم طموحات رئاسية إلى يوم قريب، أخبرني أنه طلق طموحه بالثلاثة، بل لقد قال ممازحا quot; يا حسرة على الرئاسةquot; بعد أن تركها الرئيس بن علي، فقد أصبح الرئيس التونسي quot; وإن كان مؤقتاquot;، quot;شرشوحاquot; بأتم معنى الكلمة، أحدهم يرجوه أن لا ينام حتى يسمع نداءات المواطنين الأحرار، و الثاني يطالبه بمغادرة خلوته والتحدث إلى شعبه وممارسة صلاحياته، بعد أن كان مطلب الشعب قبل أسابيع أن لا يمارس الرئيس شيئا من هذه الصلاحيات.
و حتى لا يقصر حديث الطرائف الثورية على الشعب الحر الغلبان، فلا بد من تخصيص بعض الحيز لquot;عمايلquot; بعض وزراء الحكومة المؤقتة ، التي أرجو أن تكون كذلك، و من هذه أن الوزير الشاب ndash; المحروس من عين الحساد- سليم عمامو، الذي لم يكن ترد على خاطره ولو في الأحلام فكرة التوزير، قد نجح في تحقيق أول الإنجازات للشباب التونسي العربي المسلم، ألا وهي إتاحة المجال أمامه للإبحار في المواقع الإباحية على الشبكة العنكبوتية، وما زالت قريحة الوزير الجهبذ ستتفتق على أفكار عبقرية من هذا النوع، خصوصا بعد أن يصبح زعيما لحزب quot;القراصنةquot; قيد التأسيس.
أما الوزير الهمام القادم من المعارضة، والذي طالما أنهكت إضرابات الجوع قواه، طلبا للحرية والشفافية والديمقراطية و العدالة الاجتماعية...إلخ، فقد قيل أن اختياره لوزارته الوهمية، كان من قبيل التخطيط الجهنمي للقيام بحملة انتخابية رئاسية سابقة لأوانها، على حساب خزينة الدولة التونسية، متسلحا بتعويضات دماء الشهداء يوزعها على طريقة quot;أعطه ألف دينارquot;، و بخدمات السلطات المحلية والسيارة الوزارية و المرافق العمومية التي طالما اشتكى من حرمان نظام بن علي لحزبه من استغلالها، وها هو اليوم يعوض ما فات و يستغلها أيما استغلال.
الوزير الآخر المحترم، الذي كلف بالنطق بإسم الحكومة، ولا أحد يعرف على وجه الدقة إن كان هذا التفويض حصريا أو من باب التقليد الأعمى، خصوصا وأن سائر أعضاء الحكومة لم يفعلوا شيئا إلى يوم الناس هذا غير النطق، فإنه قد بادر كما قيل ndash; ولم ينف هو الأمر إلى الآن- بوضع صهره وصديقه على رأس التلفزيون والإذاعة، و لا أحد يعلم كيف استحوذ الرجل على مسؤولية التوظيف، خصوصا وأنه لا صلة لوزارته بالمؤسستين المذكورتين، و لعل التفسير الوحيد المتاح أنه قام بتأويل كلمة الناطق بإسم الحكومة، وهو الأكاديمي المتخصص في اللسانيات، على أنها تشمل كل وسيلة ناطقة..وإنه لعجيب أن لا يكون للمعينين أية كفاءة تذكر لإدارة هذين المؤسستين الإعلاميتين، و أن الرجل قد أثبت فعلا أن الكفاءة مقدمة على المصاهرة أو الصداقة، وأن الرجل المناسب في المكان المناسب و شفافية التعيين هي أصل من أصول حقوق الإنسان.
الطرائف الثورية متواصلة، و كل ثورة وأنتم بخير، ولتعذروني لعدم ذكري طرائف الوزير ونيس فقد غادرنا غير مأسوف عليه..لكن الحق يقال أنه كان quot;تحفةquot; من quot;تحف أهل الزمانquot;.