تكاد تكون حتمية تاريخية أن تلي كل ثورة ثورة مضادة، و قد جرى ذلك على الثورات الكلاسيكية، و لن تفلت الثورات العربية التي ميزت مطلع القرن الحادي والعشرين من السيرة ذاتها فيما يبدو، فقد تداعت عليها الأضداد من الداخل والخارج، لا يكلون من العمل على نقض عراها خفية و جهرة، و لا يكفون عن نسج خيوط المؤامرات و الدسائس للإجهاض على نتائجها المدوية و إفراغ انتصاراتها العظيمة من مضامينها و الحؤول دون تحقيقها لأهدافها في إقامة أنظمة ديمقراطية تحفظ للمواطن حريته و كرامته و للدولة قانونيتها و شفافية إدارتها.
و الثورة التونسية التي بشرت بالفجر الديمقراطي العربي، مثال صارخ حي على مكابدة فصول الثورة المضادة، حيث كلما لاح للتونسيين استقرار يبشر باستكمال مشروع quot;الانتقال الديمقراطيquot; لمراحله المتعاقبة، إلا و ظهر شبح لمؤامرة مريرة تزعزع الأمن و الاستقرار و تقلب ظهر المجن على باعثي الأمل و صناعه في الدولة و المجتمع، حتى بدا شتاء الثورة المضادة لكثير من التونسيين الأطول بين الفصول، وبدت أيامه لكثرة أحداثها و تتالي أخبارها سنونا تشيب لها الولدان.
و إذا ما قررت quot;اللجنة العليا المستقلة للانتخاباتquot;، التي جرى انتخابها قبل أيام قليلة، تأجيل موعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي إلى موعد لاحق عن ذلك المحدد في 24 يوليو/تموز، فإن المجال الزمني سيمدد لأصحاب الثورة المضادة، لإخراج المزيد من الأوراق السوداء و الحمراء القانية من جرابهم القذر المتعفن، و سيطيل معاناة الخائفين على مصير المشروع الديمقراطي، في ظل تنامي أصوات لا تجد غضاضة أو حرجا في تمجيد نظرية quot;الأمن مقابل الخبزquot;، و أخرى لا تجد مانعا أو معرة من تسليم أمانة الحكم للعسكريين.
أهل الثورة التونسية المضادة، من الأشباح غير المعلنين، يجدون معاضدة من أطراف كثيرة خاسرة، في الداخل و الخارج على السواء، لعل من أهمهم بعض بارونات الحكم السابق و حزب التجمع الدستوري المنحل و جماعات سياسية يمينية و يسارية متطرفة، و بعض محدثي النعمة ممن أثروا من الفساد والظلم، مضاف إليهم ربما بعض القادة الأمنيين ممن قد تلحقهم متابعات قضائية بتهم ارتكاب تجاوزات و جرائم تعذيب أو ممن فقدوا امتيازاتهم السلطوية و نفوذهم جراء الواقع الجديد الذي أفرزته الثورة، فضلا عن أطراف قد تحركها فلول القذافي و بعض جنرالات النظام الجزائري ممن لم يخفوا امتعاضهم من الجو الثوري الديمقراطي السائد في المنطقة.
و لعل المفارقة أن يقوم قادة الثورة المضادة بتسخير عدد من أبناء الطبقات الفقيرة و المتوسطة، ممن جاءت الثورة لتصحيح أوضاعهم المختلة، مستغلين حاجتهم وفقرهم و جهلهم و أزمتهم ليكونوا وقود مؤامراتهم و حيلهم و ألاعيبهم، فكم من شعارات براقة و كلمات حق عادلة كانت مدخلا لعمليات تخريبية مضادة للحق والعدالة، فرهان ثوريي الضد المخفيين دفع تونس إلى كثير من الفوضى الأمنية و الإفلاس الاقتصادي واليباب الاجتماعي و الخراب السياسي، وهو ما سينتهي كما يأملون إلى إيقاف مشروع الانتقال الديمقراطي و إلغاء الانتخابات و إقامة نظام استبدادي جديد بصيغ معدلة و مغايرة ربما، قد يرضي جزءا من النخب، خصوصا تلك المتأكدة من عدم قدرتها على المنافسة الانتخابية، و قد أدمنت التكيف مع متطلبات خدمة الأنظمة على اختلاف أنواعها.
و إن ما يخشى منه فعلا، نقاط الضعف الكثيرة التي يمكن أن ينفذ للثورة منها، من بينها على سبيل المثال لا حصر، تعثر النخب السياسية منذ أيام الثورة الأولى في إفراز مؤسسات حكم انتقالي قوية، حيث لعبت الحسابات الايديولوجية و الحزبية والشللية الضيقة دورا بينا في اختيار الشخصيات الحاكمة، و قد اكتشف التونسيون في لحظة أن نخبهم عاجزة عن تحقيق وفاق حول شخصيات متوقدة شابة قادرة على العمل الشاق و الطويل، و أن البديل كان تنصيب quot;شيوخquot; كبار في السن، تنخر أجسادهم أمراض الشيخوخة المزمنة، على رأس نظام سياسي لدولة أحدث ثورتها مواطنون في غاية الشباب و الطموح و الحيوية.
و من نقاط ضعف الحال الثوري التونسي أيضا، أن تعود مسؤولية الحكم الانتقالي إلى أبناء عائلات عريقة quot;بلديةquot;، من ساكنة الضاحيتين الأرقى في العاصمة التونسية، بينما كانت الثورة التونسية ثورة الجهات المهمشة والمعدمة وسط و جنوب تونس العميقة، و أن تهيمن أحزاب و جماعات يسارية كثيرة العدد قليلة الشعبية على الهيئة الأساسية للمؤسسات الانتقالية، بينما تجد جل القوى الفكرية و السياسية الوسطية نفسها خارج مركز القرار و اللعبة.
و موجز القول أن بلدا صغيرا محدود الموارد الطبيعية، واقع بين بلدين ما يزالان يرزحان تحت نير أنظمة مستبدة، و يقوده رئيس مؤقت و رئيس حكومة جاوز كلاهما الثمانين حولا، و تتجاذب هيئة حماية ثورته جماعات ايديولوجية و سياسية متناحرة تعلي من مصالحها الحزبية الضيقة على حساب مصالح الديمقراطية العليا، و لم تشهد مؤسساته الأمنية و القضائية أي عملية إعادة بناء أو تأهيل، كما لم تجر فيه إلى اليوم أي متابعات عدلية حقيقية لرموز الفساد الأمني والسياسي والمالي بما يشفي غليل الملايين من التونسيين المتعطشين لتحقيق العدالة الانتقالية، مؤهل بلا شك أن يكون مسرحا ملائما لكل ثورة مضادة، تماما مثلما هو مؤهل دائما لتكذيب كافة التقديرات التي لم تنصفه من قبل، و أن يولد من ضعفه الظاهر قوة، و أن ينتصر للديمقراطية الحقة، مثلما انتصر قبل أشهر قليلة للثورة الوطنية الشعبية المنزهة عن كل حزبية أو فئوية أو طائفية أو عنف.
* كاتب و إعلامي تونسي