أجدد القول مرة أخرى، بأن حركة الاحتجاج الاجتماعي في تونس، التي انطلقت من محافظة سيدي بوزيد (أو بوزيد كما يقول أهلها) و غطت تداعياتها الدموية سائر محافظات الجمهورية، شكلت أهم التحديات التي اعترضت مسيرة حكم الرئيس بن علي إلى اليوم، وأخطرها على الإطلاق في رأيي.
و على الرغم من طبيعتها المفاجئة لكافة الأطراف، سلطة ومعارضة و مجتمعا مدنيا، فإنها تتفق في جانب من الجوانب مع حدس الرئيس بن علي نفسه، الذي اتخذ من جملة quot; معا لرفع التحدياتquot; شعارا لبرنامجه الرئاسي الذي خاض به انتخابات 2009، ويبدو أن شعبه لم يصبر طويلا حتى يعلن له عن أشرس هذه التحديات، تحدي الشباب التونسي quot;غير المؤطر سياسياquot; وquot;الغاضب جدا اجتماعياquot; و quot;الحانق حتى الانتحار اقتصادياquot;.
و لعل أخطر ما تضمنته quot;انتفاضة الظهرية التونسيةquot; ndash; كما يمكن أن تسمى هذه الحركة الاحتجاجية الشعبية- هو كيفية قراءة السلطة لها، و المدى الذي ستذهب إليه الإجراءات الإصلاحية التي سيتوجب عليها اتخاذها لتطويق تداعيات هذه الحركة، و للحفاظ على المكتسبات والمصالح الوطنية التي تهددها، وهنا وجوب توجيه الرسائل السبعة التالية إلى الرئيس بن علي، لعلها ترشده إلى كسر القاعدة في التعامل مع مثل هذه الأزمة، وفتح سبيل جديد أرحب و أوسع للمشروع الوطني التونسي، وانطلاقة جديدة لحركة التغيير المطلوبة، خصوصا في ظل رهان البعض وتمنيته النفس بتغييرات دراماتيكية، ستكون كلفتها عالية جدا ndash; لا قدر الله- على حاضر ومستقبل تونس.
1- الرسالة الأولى (الإصلاح السياسي): أن الحرص على هيبة الدولة و مكانة النظام لا يجب أن يصور نفسيا على أن الأمر متعلق بquot;تنازلاتquot; وجب اتخاذها، بل quot;إصلاحاتquot; عميقة وجذرية في حجم ما تكشفت عليه الأزمة، وquot;مراجعاتquot; كبرى لا بد لأي مسيرة بشرية، أتعلق الأمر بدولة أو شعب أو عائلة أو فرد، من أن تحدثها إذا ما هي أرادت أن تضمن لنفسها الحياة، و الاعتقاد بأنه قد آن الأوان بعد أكثر من عشرين عاما، أن يقوم رئيس الدولة في ظل نظام رئاسي مركز بالقيام بإعطاء نفس جديد للنظام السياسي وهيكلية المؤسسات، بما يدفق دماء جديدة وخطابا جديدا و حركية مطلوبة، أكثر إقناعا لهذه الفئات الاجتماعية الشابة، التي لم يعد ممكنا مخاطبتها إلا بتقنيات القرن 21، فهي أجيال الانترنت والفايس بوك وموسيقى الراب الثورية و الهاتف الجوال والعالم المفتوح على مصراعيه.
2- الرسالة الثانية (الأمن): أن الاعتماد على المؤسسة الأمنية ndash; و إلى جانبها الآن المؤسسة العسكرية- ينطوي على مجازفة سياسية كبرى، فإذا لم تتخذ إجراءات واضحة وكبيرة ومقنعة قادرة على استمالة الشرائح الغاضبة و ترميم ثقتها المفقودة بالوطن، و بالمقابل مواصلة تكليف قوات الشرطة والجيش بمهام تحقيق الاستقرار، فإن العلاقة بين المواطنين والنظام ستنحو نحو مزيد من التأزم والاضطراب، باعتبار أن الشبيبة التونسية المتظاهرة قد كسرت جدار الرهبة، وستتعود على المواجهة، بل ستجد في هذه المواجهة نوعا من ملئ الفراغ و المعنى، وبالمقابل فإن نبرة التذمر و عدم الرضا ستتصاعد في صفوف أبناء هذين المؤسستين، باعتبار أن مواجهة عنيفة أو دموية مع أبناء شعبهم، لا يمكن أن تكون مفتوحة، بل إنها لا يمكن أن تكون وظيفة من الأساس، فهؤلاء هم في نهاية الأمر أبناء هذا الشعب، وخلاصة القول هنا أن حل الأزمة الحالية بالتحديد، ليس حلا أمنيا، بل هو حل سياسي اجتماعي اقتصادي مركب أو لا يكون، ولامتصاص حقيقي لحالة الاحتقنان، فإن الخطاب المطلوب يجب أن يتضمن الإعلان عن تعديلات سياسية كبيرة وملموسة تشرئب لها الأعناق، وليس فقط الإعلان عن وعود قاطعة بتشيغيل آلاف العاطلين، على أهمية هذه الوعود وملامستها مطالب المحتجين.
3- الرسالة الثالثة (التنمية الجهوية): أن الجهات الداخلية أو المحيط أو الهامش كما يشار إليه في أدبيات علوم التاريخ والاجتماع و السياسة، عادة ما تشكل منطلق الثورات وحركات الاحتجاج والتمرد، و أن محافظات الظهرية التونسية، خاصة السبعة الآتية منها: quot; جندوبة، والكاف، و القصرين، وسيدي بوزيد، و سليانة، و قفصةquot;، يجب أن تكون فعلا محط quot;تمييز إيجابيquot; للدولة في مخططات التنمية العاجلة، و أن تمثيل هذه الولايات في مؤسسات الحكم يجب أن يكون أوضح، و أن أطر الدولة وممثلي رئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية في هذه المناطق يجب أن يكونوا من أصحاب التأهيل العملي والإداري الخاص، وأن يكونوا من ذوي الدراية بتركيبة مناطقهم السيوسيولوجية والقدرة على محاورة الساكنة المحلية و خصوصا منها الفئات الشابة، إذ كثيرا ما اشتكى سكان الظهرية من quot;ولاةquot; وquot;معتمدينquot; متعجرفين قادمين من مدن ساحلية، يملؤهم التكبر و الازدراء و وسائلهم إلى الحكم ممارسة السلطة بقدر كبير من الشطط، بل لعله قد حان الوقت ليكون الوالي أو المعتمد منتخبا أيضا، مثلما هو الشأن في عديد الدول التي اتبعت نظام اللامركزية الإدارية على المستويين الجهوي والمحلي.
4- الرسالة الرابعة (الإعلام): أن وسائل الإعلام الوطنية في عصر الإعلام الذي نعيش، تستحق ثورة حقيقية في جهازها الإداري و خطها التحريري وفلسفتها البرامجية و مرجعيتها السياسية، حيث تحولت هذه الوسائل بما تبثه من مواد سمعية بصرية متهافتة، عبئا حقيقيا على النظام و المصالح الوطنية، وبدل أن تكون عنوانا للتقدم وإسناد العملية التنموية، اضحت مثار سخرية وتندر و مناطا لمهاجمة السلطات والحكومة. و إن تطوير الإعلام الوطني يمكن أن يستفيد من عشرات الكفاءات التونسية البارزة العاملة في كبريات المحطات العربية. وفي عالم إعلامي مفتوح، يجب أن يدرك النظام أن أبسط مواطن تونسي يعيش في أقصى نقطة نائية قادر على القيام بمقارنة بين إعلام بلاده والإعلام العربي والدولي، وقادر على الخروج باستنتاجات ليست أبدا في صالح الوضع الإعلامي القائم في بلاده، فإذا لم يجد في نفسه مكانا لمتابعة نشرة تونس 7، فإنه لا أحد سيلزمه بمتابعتها، وليس بينه وبينها إلا زر صغير. و إن من أخطر أدواء الإعلام الرسمي التونسي، هو ابتذال رموز النظام بخطابه الخشبي وتكراره الممل، و كأن المقصود بمواده منافقة رئيس الدولة وليس تقديم خدمة إخبارية للمواطنين. و لا يختلف ما يسمى بالإعلام الخاص أو المستقل كثيرا عن الإعلام الرسمي، بإصراره على ممارسة quot;البروباغنداquot; و تمسكه بالخطاب الإعلامي الخشبي.
5- الرسالة الخامسة (الفساد): أن التونسيين برهنوا على ضيقهم الشديد ببعض المظاهر التي استشرت في مجتمعهم خلال السنوات الأخيرة، فهم يعترضون على الفساد والرشوة والمحسوبية، و يشيرون بأصابع اتهام واضحة لعائلات متنفذة بعينها، و يطالبون بعملية تنمية وتوظيف ومنافسة اقتصادية أكثر شفافية. ولا شك أن عموم المواطنين ينتظرون من الرئيس إجراءات ردعية للفاسدين و مراجعات حقيقية لآليات مكافحة الفساد وضمان الشفافية و تزويد مؤسسات الرقابة بإمكانيات أكبر وصلاحيات أوسع للحد من ظواهر الانحراف واستغلال النفوذ و تسخير الأملاك العمومية لخدمة مصالح شخصية أو فئوية أو عائلية. و إن مصداقية النظام السياسي خلال السنوات القادمة لدى مواطنيه، سترتبط إلى حد كبير بآداء النظام في موضوع لجم الفساد.
6- الرسالة السادسة (البرلمان): أن الأزمة الحالية كشفت للنظام السياسي القائم بلا شك، بعقم و عدم نجاعة المؤسسات السياسية، و تحديدا البرلمان بغرفتيه و الأحزاب السياسية، الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة الممثلة، في الوقوف إلى جانب السلطة التنفيذية في أزمتها، و الدعوة قائمة في ظل نظام رئاسي لا يخشى فيه الرئيس على مكانته العلوية، إلى تحرير هذه المؤسسات، أي البرلمان و الأحزاب و سائر المجالس والهيئات السياسية التمثيلية، من حالتها الاتكالية على الدولة ومساعدتها على اكتساب قدر من المصداقية لدى المواطنين، من خلال مراجعة النظام الانتخابي، وتبني نظام الانتخاب الفردي أو النسبي على مستوى الانتخابات التشريعية و البلدية. وإنه سيكون أحد عوامل تطويق الأزمة، لو دعا رئيس الدولة إلى انتخابات برلمانية و محلية سابقة لأوانها، والفصل زمنيا وسياسيا بين هذه الانتخابات والانتخابات الرئاسية، فضلا عن الفصل بين منصب رئيس الدولة ورئيس الحزب الحاكم، وجعل الحكومة نتاجا للخارطة البرلمانية ومسؤولة أمام نواب الشعب، وفتح مجال العمل السياسي أمام كافة القوى الراغبة في العمل السياسي ضمن الشرعية، و تمثيل كافة التيارات السياسية بما في ذلك التيار الإسلامي المعتدل.
7- الرسالة السابعة (الشراكة الوطنية): أن النظام السياسي التونسي مطالب بمراجعة علاقاته بنشطاء المجتمع المدني و النقابيين والمثقفين و الأكاديميين و الإعلاميين، وأن يكسر العزلة التي فرضها على نفسه، على نحو وسع دائرة الأعداء، وضيق دائرة الأصدقاء، و أن تكون علاقاته مع هذه الشرائح غير المعنية عادة بالصراع على السلطة والمناكفات السياسية، سبيلا له للاطلاع على نبض المجتمع واستطلاع آراء الفئات الشابة و الوقوف على جذور المشاكل والقضايا القابلة للانفجار.

كاتب تونسي