يبدي الإسلاميون في أكثر من بلد عربي، دكت الثورة الشعبية عرش حاكمه الفرد الشمولي، ثقة كبيرة في أن صناديق الاقتراع ستقود إلى فوزهم، وأنهم مؤهلون أكثر من غيرهم لقيادة الحكم أو المشاركة فيه على الأقل.
و كمخرج للإشكالية التي طرحتها ثنائية الإسلام والعلمانية، وجد الإسلاميون في مصطلح quot;الدولة المدنيةquot; ضالتهم، فهي تجنبهم إحراج quot;الدولة الدينية أو الثيوقراطيةquot; التي يتهمهم العلمانيون بالعمل على بنائها، فيما تمنحهم في الوقت ذاته فرصة لعدم الخجل أمام قواعدهم التي قد تتهمهم بالتخلي عن مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية.
غير أن الإشكالية العويصة التي تبدو بلا مخرج لدى الإسلاميين إلى الآن، هي نموذج الدولة الذي يمكن أن يعدوا به شعوبهم، فتجاربهم في الحكم تبدو في حالاتها جميعا مدعاة للخجل، ولا يعتقد أن مرشحا للانتخابات في مصر أو تونس أو غيرهما من الدول المرشحة لتغيير ديمقراطي قريب، بمقدوره أن يعد ناخبيه بحياة سعيدة كتلك التي عاشها مثلا quot;الأفغانيquot; في ظل طالبان، أو يعيشها السوداني أو الإيراني أو الفلسطيني في غزة حاليا.
و المفارق في شأن بعض القادة الإسلاميين أنهم يمنون مواطنيهم ببناء حالة شبيهة بتلك التي يشهدها الأتراك في ظل حكم رجب طيب أردوغان، لكنهم يغفلون أو يتغافلون عن أن الحديث في هذه الحالة يجري عن دولة ذات حكم علماني، وأن حزب العدالة والتنمية قد سلم منذ تأسيسه بأنه حزب علماني محافظ على غرار الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب، فهل ترى الإسلاميين العرب يقبلون بالشرط الذي قبل به نظراؤهم من الترك؟ وإذا كانوا كذلك فلماذا تراهم يمانعون في إعادة كتابة دساتيرهم وفقا للصيغة التركية؟
الإسلاميون أيضا ينفون بشدة احتكارهم للإسلام، ويعترضون بغضب على كل من يتهمهم بأنهم يستغلون المشترك أو الجامع في هوية شعوبهم، في بورصة السياسة والانتخابات، ويشترون بآيات الله أصواتا بهدف أن تقودهم للسلطة، لكن قارئ أوراقهم وبياناتهم لا يجد في الغالب أية برامج تنموية، اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، وفيما عدا الشعارات الدينية العامة المدغدغة للمشاعر، فإن ما يمكن أن تطرحه الحركات الإسلامية على الناخبين لن تكون سوى وسائل أو تقنيات غربية المنشأ، مستوردة من مصادر متعددة يمينية أو يسارية.
التفوق الأخلاقي الذي طالما أكد الإسلاميون على أنه سر جاذبيتهم ودليل استحقاقهم، أصبح بعد تجارب الحكم التي خاضوها في الدول المذكورة، مجرد خرافات أو أساطير لا يمكن أن يتشبث بها إلا المتعصبون أو السذج والمغفلون، وقد ثبت بالدليل القطعي أن الإسلاميين كغيرهم من أبناء مجتمعاتهم يعذبون خصومهم ويلفقون لهم التهم وينتهكون الأعراض ويسجنون ويسقطون في فخاخ الفساد ويثرون على حساب المصالح العامة.
هناك من الإسلاميين من قال بأن صراعاتهم مع الأنظمة المستبدة لم تترك لهم فرصة أو وقتا ليبنوا ويطوروا برامجهم الاقتصادية والتنموية، ولا يعرف ndash; إذا صدق الرجل في جوابه- لماذا تسارع الحركات الإسلامية إلى المشاركة في الانتخابات ما دامت لم تجد الوقت لبناء برامج، ثم ألم يكن من الأجدى في هذه الحالة أن يمنحوا أنفسهم إجازة مفتوحة حتى يستكملوا بناء رؤاهم وتحقيق تميزهم عن غيرهم وقدرتهم على نيل أصواتهم بالاعتماد على اجتهاداتهم، لا على مكانة الله ورسوله.
في مسارهم المحموم للمشاركة في الحياة السياسية والحكم والسلطة، تخلى الإسلاميون عن مطالب كثيرة كانت تمثل حجر الأساس في مشروعهم المعاصر مثل الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة وإقامة الحدود ومقاومة العدو الصهيوني والاستكبار العالمي وتعدد الزوجات وإطلاق اللحى وتقصير الثوب ومنع بيع الخمور وتحريم الاختلاط في المدارس والجامعات والإدارات، وهم مستعدون أيضا للتنازل عن أشياء أخرى كثيرة لعل من بينها عدم المساواة في الإرث بين الجنسين وإلغاء حكم الإعدام، غير أن السؤال الذي بقي بلا إجابة في سياق هذه التنازلات، هو طبيعتها، وما إذا كانت نتاج تحولات فكرية وايديولوجية يجب أن تتزامن مع جهد تنظيري واجتهادي يؤصلها ويجذرها، أم أنها مجرد تكتيك مثلما يشير إلى ذلك الخصوم.
من العبارات التي شبه صوفي quot;الإسلام السياسيquot; بها أنه نظير quot;المادية الدينيةquot;، في استعارة مما عرف لدى اليسار الماركسي بquot;المادية التاريخيةquot;، وثمة تشبيه قريب من هذا الوضع ردده متصوف أيضا، فحواه أن أخطر المقامات على الإيمان هو المقام الأوسط، وذكر أن الإسلاميين في غالبيتهم من أهل هذا المقام، فلا هم من مقام أدنى كعامة المسلمين، يشعرون أنهم يخطئون ويصيبون ويستغفرون، ولا هم من المقام الأعلى، حيث ينصرف الروحانيون الذين أشرقت نفوسهم بنور ربهم، عن الدنيا لأنهم خبروا قيمتها الحقيقية ولم يجعلوا للحكم طريقا واحدا للتأثير عليه.
لربما بدت كل هذه هواجس غير مبررة، وبدا طريق السلطة فعلا أفضل طريق ليدرك الإسلاميون قبل سواهم حقيقة مشروعهم، وتمحص الشعوب حقيقة قدراتهم وكفاءاتهم ومشاريعهم..غير أن التجارب للأسف الشديد ليست جميعها سهلة أو سالكة أو قليلة الكلفة.

* كاتب تونسي