لم يصمد الرئيس زين العابدين بن علي أمام الجماهير المطالبة بالتغيير إلا يوما واحدا في حقيقة الأمر، وصمد الرئيس حسني مبارك ثمانية عشرة يوما قبل أن يستسلم لشباب ساحة التغيير، وسارع الملك محمد السادس إلى الاستسلام حتى قبل أن يطلب منه أحد فعل ذلك، أما القادة الذين لم يفهموا رسائل شعوبهم، ولا أظنهم يفعلون، فهم قادة تلك الدول التي طالما صنفت على أنها من دول quot;الممانعةquot; ومن أعمدة quot;جبهة الصمود والمقاومةquot;.
و قد اتضح اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لماذا سميت كذلك، فهي دول ممانعة، لا تمانع كما زعمت في الخضوع للإملاءات الخارجية، بل تمانع في الاعتراف بحق شعوبها في ممارسة سيادتها، وليست صامدة أو مقاومة لمخططات ومشاريع أعداء الأمة مثلما تدق طبول دعايتها وأصوات دعاتها العالية، إنما صامدة ومقاومة لثورات مواطنيها الحالمة بإقامة أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وحرياته وكرامته.
اصفر وجه الرئيس بن علي وفقد توازنه وغص حلقه بكلمات التفهم والاعتذار والوعود بالتغيير بعد سقوط أقل من مائة شهيد، وبدا وجه مبارك شاحبا ولسانه معقودا وخطاباته الآسفة المستجدية مترددة بعد استشهاد أقل من مائتين، بينما ما انفك القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد على امتداد أسابيع من ثورات مواطنيهم وسقوط الآلاف والمئات والعشرات من الشهداء، يصبون الرصاص في آذان شعوبهم، فهم quot;جرذان مقملينquot; وquot;عملاء إرهابيينquot; وquot;خونة متآمرينquot;.
إنه لمفارق أن يرتعد من كانوا يوصفون بأنهم quot;عملاء الغربquot; وquot;رجال الولايات المتحدةquot; في المنطقة لمقتل العشرات من مواطنيهم، ويسارعون بعد ذلك لمغادرة كراسيهم، بينما لا يجد quot;الممانعونquot; وquot;الصامدونquot; وquot;المقاومونquot; الشرفاء من قادة الأمة في قتل عشرات الآلاف، وربما الملايين، من أجل البقاء في السلطة، وكان صدام حسين وهو عميد الفئة الأخيرة من الرؤساء العرب قد خطب وهو يواجه المنتفضين سنة 1991 أنه على استعداد quot;لقصقصة رؤوس ثلثي الشعب العراقي ولن يرف له جفنquot;.
من الأحداث المبكية المضحكة أيضا أن رؤساء جبهة الصمود والتصدي من قبيل القذافي وصالح والأسد، لم يتفوقوا على رؤساء quot;الخيانة والعمالةquot; في شرههم الكبير لسفك دماء مواطنيهم العزل المطالبين بالتغيير فحسب، بل تفوقوا بشكل لا يقاس في سائر مواطن الخور والخلل والفساد، فقد أظهرت الأرقام أن بن علي ومبارك فقراء يستحقون الشفقة على مستوى ثرواتهم إذا ما قورنوا بالثلاثي الليبي واليمني والسوري، وأما الاستعداد للتوريث وتمكين العائلة والعشيرة والطائفة من مقاليد الحكم والدولة، فإن الرئيسين السابقين في تونس ومصر ظهرا تلميذين فاشلين في المدرسة الجملكية، التي بسط عليها أبناء العقيد الستة أو السبعة أو الثمانية، وبعض من آل الأحمر، وكثير من آل الأسد، هيمنة مزدوجة جمع فيها بين مراكز السياسة والقوات المسلحة.
رؤساء الجبهة الثورية العربية والأعضاء السامين في نادي الرئيس صدام حسين، ممن لم يجدوا غضاضة في استدعاء أكاذيب مقاومة المؤامرات الامبريالية على أنظمتهم وأساطير الصمود في وجه الحملات الصليبية والصهيونية، لم يدركوا أن مثل هذه الخرافات والمسرحيات لم تعد تقنع أحدا من شعوبهم، فقد وقفت هذه الشعوب بنفسها وفي أكثر من قضية ومناسبة، كيف أبدى القذافي وصالح والأسد كل الاستعدادات الممكنة للتفريط في كل شيء للغرب والولايات المتحدة، بضمان بقائهم وبقاء أبنائهم في السلطة، وليست قضايا لوكربي والقاعدة ولبنان ببعيدة.
و كلمتي إلى هؤلاء الذين التمسوا أعذارا شتى، بحجج قومية عربية أو دينية إسلامية، لهذه الأنظمة القمعية الفاسدة، أن التمسك بخلفية ليبرالية للدولة القطرية العربية كان الأفضل سابقا، بالنظر إلى أن الليبرالية كانت أحد عوامل التخفيف بالنسبة للأنظمة السياسية الشمولية السائدة، وهي الأفضل مستقبلا لأن الرؤى الوحدوية العربية والدعوية الإسلامية هي في أمس الحاجة للأجواء الليبرالية الديمقراطية لكي تتحقق وتتطور وتستقيم وتحقق غاياتها النبيلة.