من قناعاتي الراسخة أن الإيديولوجيا هي أكثر من يسيء إلى الفكرة، و على هذا النحو فقد كان الشيوعيون الأكثر إيذاء للفكرة الاشتراكية، والإسلاميون الأكثر خطرا على الدين، و القوميون العرب الأكثر تخريبا لمشروع الوحدة العربية والأكثر إضرارا بالعلاقات العربية العربية..و قد كان صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي أبرز عوامل التشرذم والانقسام والصراعات والحروب والفتن في العالم العربي المعاصر.
الثورات العربية المتلاحقة منذ فجر 2011، تبدو بمثابة مراهم تداوي جروح الدولة القطرية العربية وتفند مزاعم الرؤساء المتشبثين بالحكم الاستبدادي الواحدة تلو الأخرى، فتونس لم تسقط بعد رحيل بن علي في يد الأصوليين، و مصر لم تتدحرج نحو الحرب الطائفية، واليمن لن يشهد اقتتالا قبليا أو انقساما جديدا، و ليبيا لن تصبح دولتين.
المستبدون العرب لوحوا للعالم بكل بطاقات الخطر، الإرهاب والأصولية والقبلية والانقسام والطائفية والفتن الداخلية و النفط، لكن التلويح لم يجد نفعا، و لم تنطل الأكاذيب والحيل على أحد، وثمة إحساس عميق بأن الأجيال الشابة التي كانت وقود الثورات، مدركة لألاعيب حكامهم الممكنة، فعملوا قصارى جهدهم على تفتيت وتفكيك مفاعيلها، و أثبتوا من خلال شعاراتهم و ممارساتهم خلافها.
الحكام قالوا quot;أصولية و متطرفة وعنيفةquot; فرد عليهم الشباب بل نريدها quot;ديمقراطية مدنية سلميةquot;، و الحكام قالوا quot; طائفية وقبلية و حروب داخليةquot;، فكان رد الشباب بل quot; وحدة وطنية و مواطنة حضاريةquot;، و الحمد لله أن كانت الثورة نتاج أجيال شابة لم تتجاوز الثلاثين في غالبيتها، فقد طغى الانقسام الحاد على الأجيال الأكبر سنا، وكان جيلي على سبيل المثال غاية في الانقسام، حيث كنا تيارات أربع quot; إسلاميون و شيوعيون و قوميون عربا وليبراليونquot;، و لم يكن بمقدورنا أن نقود ثورة مجتمعين أبدا.
العالم العربي لن يكون بعد أشهر قليلة quot;الاستثناءquot; الدولي، و الديمقراطية التي ستنتشر في كل جمهورية و مملكة وإمارة، بفعل التغيير الثوري أو المبادرة الإصلاحية، ستمهد الطريق في رأيي لاستكمال الحلم العربي في العدالة الاجتماعية و الوحدة و تحرير فلسطين، و بخلاف ما هو متوقع، وفي حين فشلت الأنظمة العربية التي رفعت شعار القومية العربية في ربح معارك الأمة الكبرى، فإن هذه الأنظمة الديمقراطية الجديدة التي هي بصدد التشكل حاليا، ستقود في النهاية إلى انتصارات عظيمة في الساحات المذكورة.
لقد أفضت تجارب الحكام العرب المستبدين بإسم الإديولوجية القومية العربية إلى نكسات مخجلة، ففي معركة الوحدة ظهرت جراء دولة الفرد الواحد الأحد صراعات وحروب طاحنة بين الاشقاء، وفي معركة العدالة الاجتماعية تحولت البلدان جراء دولة الفرد الواحد الأحد إلى مجالات للفساد والرشوة و هدر مقدرات الشعوب وتمكين عائلات السلاطين من الموارد العامة، وفي معركة تحرير فلسطين استأسدت اسرائيل جراء دولة الفرد الواحد الأحد فكانت تأمر هذا وتنهى ذاك و ما من رافض لأوامرها ونواهيها طلبا لودها واسترضاء لحماتها الغربيين.
و عندما ستترسخ الديمقراطية في العالم العربي قريبا، ستصبح الدول للشعوب لا لأشخاص بعينهم، وسيكون مشروع الاتحاد بين دول المنطقة ضرورة لتحقيق مصالح المواطنين ونتاجا لغياب التناقض بين القيادات و تحكم الأمزجة المتقلبة في الموازين، وسيتخذ المسار طريق العقلانية و الهدوء فيستبدل الشعارات الفضفاضة بالأعمال الجادة، ولن يكون عملية متسرعة و عدائية للخارج أو مستفزة، كما لن يكون بمقدور إسرائيل فرض إملاءاتها أو استعراض عضلاتها وستجبر في النهاية على منح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وطلب السلام العادل بجدية.
و يملك العالم العربي كل مقومات الوحدة والنماء، فإذا ما أخذ في مجمله بنواصي العصر من ديمقراطية و مدنية و سلمية، كما تحيل إلى ذلك تطلعات ثوراته الشعبية الملهمة، فإنه سيتقدم بخطى ثابتة نحو التكامل والتعاون و الفاعلية اقليميا و دوليا، وسيجد نفسه على مواعيد متلاحقة مع التاريخ في جميع المجالات، و سيقترب شيئا فشيئا من الإجابة على الأسئلة التي طرحها رواد النهضة العربية الإسلامية منذ بدايات القرن التاسع عشرة.
خلاصة القول أن ما عجز عن تحقيقه القوميون العرب جراء تبنيهم أنظمة الحكم الفردية الفاسدة، ستحققه عبر الديمقراطية هذه quot;الكتلة التاريخية الشبابيةquot; التي قادت الثورات العربية، والتي تشكلت من مزيج ايديولوجي فريد خلط بكل سحر وإلهام بين عناصر فكر الأمة المختلفة، الإسلام و العروبة و الحرية و الديمقراطية و المواطنة والعدالة الاجتماعية، وأعظم ما في الأمر أن لا أحد غير quot;الأمة جمعاءquot; بمقدوره الزعم أنه صاحب هذا المشروع أو القائد لهذه المسيرة.
* كاتب تونسي