من يراقب يوميات الثورة التونسية، سيلاحظ أنه قبل أيام فقط كان خطاب عدد كبير ممن نصبوا أنفسهم quot;حماة للثورةquot;، و لا أحد على وجه التحديد يعرف من نصبهم، يصب في اتجاه التأكيد على أن السيد محمد الغنوشي لن يستقيل من منصبه، باعتباره حسب رأي هؤلاء شكل جزء أساسيا من مؤامرة حيكت في جوف يوم 14 يناير لإفراغ الثورة من مضمونها، وها قد استقال الرجل فماذا عساهم يقولون يا ترى؟
و بحسب quot;حماة الثورةquot; الأشاوس دائما، فإن عشرات المؤمرات الداخلية والخارجية تحاك، وأن وظيفة quot;الشرفاءquot; هي التصدي لهذه المؤامرات، عبر الاستمرار في تنظيم المظاهرات والاعتصامات و تعطيل الحياة العامة و إرباك الاقتصاد و مهاجمة المسؤولين على اختلاف درجاتهم و زرع الشكوك والاتهامات حتى في وجه أولئك الذين أفنوا حياتهم في معارضة الرئيس بن علي، و لا يعلم المرء أي مناخ أفضل من هذا الذي يصنعه quot;الثوريونquot; ليتحرك فيه المتآمرون، أم هل أن تحالفا ما ربما قام بين حماة الثورة وأعدائها، و يا للمفارقة؟
ثمة من قال لي أن quot;الله تعالىquot; لو تجسد و نزل من عليائه إلى التونسيين اليوم (و أستغفره تعالى على إن أوردت الخبر)، أو حتى أناب رسوله الكريم محمد (ص) في ذلك، لواجهه هؤلاء بكلمتهم الأثيرة quot;Degagequot; أي quot;إرحلquot;، فلا أحد عند quot;حماة الثورةquot; المتناسلين بعدد شعر الرأس، فوق النقد والتشكيك، وهو لن يكون أبدا بحسبهم ضمن لائحة quot;الشرفاءquot; مجهولة النسب، فما البال برجل كquot;الباجي قايد السبسيquot; لا يقال له إرحل وهو لم يكن محل إجماع التونسيين، و ليت القوم يذكرون رجلا واحدا أو إمرأة يمكن أن يكون كذلك؟
الدولة التونسية دولة عريقة تعود جذورها إلى ما يقارب الثلاثة آلاف سنة، و محمد الغنوشي الذي قاد الحكومة التونسية بعد الثورة لستة أسابيع، و كان من قبل رئيسا لها لمدة عشرة أعوام، أحد أبناء هذه الدولة المخلصين، ممن عمل نصف قرن في دواليبها و تدرج في سلمها من أسفله إلى أعلاه، وقد كان هاجسه في توليه المسؤولية، سواء في ظل نظام الرئيس بن علي أو خلال الأسابيع الماضية ما بعد الثورة، هو هاجس رجل الدولة الأمين الذي يؤمن بأن الفراغ هو أكبر خطر يمكن أن يهدد دولة، لكن ماذا عسى الدولة التونسية تفعل في مواجهة quot;حماة الثورةquot; الأشاوس، ممن اكتشفت بطولتهم وشجاعتهم الخارقة أيام الحرية لا أيام البلاء و العنجهية؟
في هذا الزمن الثوري العصيب، لا أحد يعلم معالم هذه quot;الحكومة الانتقالية العجائبيةquot; التي يطالب بها quot;حماة الثورةquot;، و التي يجب أن تشغل في 36 يوما نصف مليون عاطل و ترفع في أجور الموظفين والعمال و تقضي على كافة المفسدين و تعالج جميع الملفات المطروحة، و تنفذ في الآن نفسه الإصلاحات السياسية والقانونية والدستورية الكفيلة بإضفاء الشرعية على مؤسسات الحكم؟
فإذا ما أضيف إلى هذه الحالة إكراهات ضغوط المنطقة، حيث تدفق عشرات الآلاف من التونسيين المقيمين في ليبيا عائدين إلى بلادهم عاطلين أيضا، وخسائر المقاولات التونسية التي تفوق المليار دولار في هذا البلد الشقيق السائر على طريق الثورة، عدا توقف حركة السياحة من الجارين الليبي والجزائري، فسيكون المطلوب من حكومة باجي قايد السبسي، أو أي حكومة تأتي في مكانها، أن تتوفر على قدرات quot;سحريةquot; خارقة حتى تنجح في امتحان quot;حماة الثورةquot; المستحيل وتنال رضا ثوار ما بعد الثورة؟
في ليبيا المجاورة، يتطلع الليبيون إلى إنهاء مأساتهم الممتدة على 42 عاما مع quot;اللانظام الجماهيريquot;، أما في تونس فإن quot;حماة الثورةquot; يطالبون في كل مكان و مؤسسة بحالة quot;جماهيريةquot; في إدارة المؤسسات والشركات التابعة للدولة، ومن ذلك مطلب صحفيي التلفزيون التونسي و موظفيه وعماله، بطرد أي مدير يؤتى به حتى لو كان ملاكا، و الدعوة إلى انتخاب كافة أنواع المسؤولين، وعندما يبحث المرء في حالات أعرق المؤسسات الإعلامية العامة في أعرق الدول الديمقراطية، لا يعثر للأسف الشديد على مثل هذه الرؤية الأفلاطونية، التي نجحت إلى حد الآن في تحويل التلفزيون التونسي إلى تلفزيون صومالي أو أرتري، مع احترامي الشديد للشعبين الشقيقين، أم أن التطلع هو إلى تلفزيون quot;الجماهيريةquot; العظيم؟
و إن المبدأ عند الديمقراطيين في كل مكان، حساسيتهم المفرطة من اقتراب العسكر من الحياة السياسية، وتحبيذهم الدائم التزام العسكريين حتى في أحرج الأوقات بوظيفتهم الدستورية في حماية حدود الوطن و ضمان أمنه، لكن بعض حماة الثورة التونسية لم يترددوا في توجيه الدعوة تلو الأخرى لقادة الجيش التونسي للتدخل والإشراف على المرحلة الانتقالية، فهل القصد من وراء الدعوة حماية الثورة فعلا أم أنها نكاية بزملائهم المدنيين، حتى ولو كان الثمن تلويث المؤسسة العسكرية التونسية التي أظهرت وعيا عظيما بمخاطر السقوط في آلاعيب الساسة، خصوصا تلك الفئة quot;الطهورية المزايدةquot; من بينهم؟
اللهم إحفظ الثورة التونسية من ثوريي ما بعد الثورة، أولئك الذين لم يشاركوا فيها، وهم اليوم الأغلبية المستبدة التي يعلو صوتها فوق كل صوت و يطال سعارها كل مؤمن بأن تونس للجميع، وأن قليلا من الصبر على الحكومة الانتقالية سيكون نافعا للسياسة والاقتصاد معا، ولربما حقق أهداف الثورة أفضل من عنتريات و شعارات المزايدين.
* كاتب تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات