اعترفت السلطات التونسية في تونس بعد الثورة، بحزبين quot;للبعثquot; دفعة واحدة، لعل أحدهما ملتزم بخط حزب البعث العربي الاشتراكي quot;الصداميquot; في العراق، أما الثاني فلربما كان تابعا لحزب البعث العربي الاشتراكي quot;الأسديquot; في سوريا.. وبهذا تكون تونس قد حققت سابقة فريدة من نوعها في العالم العربي، مثيرة للانتباه والجدل معا.
ليس لدي شخصيا أي اعتراض على منح تأشيرة العمل القانوني لأي حزب يرغب في العمل ضمن القانون ويعلن ولاءه للمبادئ الديمقراطية المتعارف عليها أمميا، ولم أكن يوما من دعاة الإقصاء أو الاستئصال بحجة الخوف على الحداثة أو الديمقراطية، لكن لي رغبة شديدة في إثارة بعض الأسئلة التي أراها ملحة، والتي لم اهتد لأجوبة مقنعة عليها إلى الآن.
أذكر أنني قبل سنتين، وكان ذلك عقب إعدام الطاغية صدام حسين، اعترضت بشدة على الأستاذ أحمد نجيب الشابي، الوزير الحالي في حكومة الانتقال الديمقراطي، إذ كتب الرجل مرثية شهيرة في صدام كان مطلعها quot; أحببناك..quot;، نشرت حينها في القدس العربي ومواقع كثيرة أخرى، وسألت الرجل في حينها كيف يوفق بين نضاله ضد الديكتاتورية في بلاده وعشقه الشديد للدكتاتور في العراق، وأجابني الرجل بـquot;أن الجمهور عايز كدهquot;، وليته لم يرد علي، بل لعلني وجدت في سيرته الوزارية الراهنة ما يدعم هذه الإجابة ويزكيها.
الأستاذ الشابي ليس شاذا في قدرته هذه على الجمع بين quot;حب ديكتاتور في بلادquot; وquot;كراهية دكتاتور في بلاد أخرىquot;، فقد سبقه إلى هذا الصنيع ولا يزال مفكر الثورات الديمقراطية العربية الراهن ومحلل quot;الجزيرةquot; الدائم الدكتور عزمي بشارة، الذي اشتهر بدوره بمرثيته العظيمة في حافظ الأسد quot;حاكم سوريا إلى الأبدquot;، ولا شك أن وفاءه للأسد ما يزال ثابتا بينما نراه يهاجم بشراسة لا لبس فيها طغاة العرب، الذين هم تلاميذ صغار بلا شك في مدرسة منتهك حماة وحمص وسائر المدن السورية المغلوبة على أمرها.
خلال الثورة المصرية، سجلت كما سجل الجميع تقريبا، حضور صور الزعيم عبد الناصر بقوة، ومشاركة الناصريين بكل حماسة في الثورة الشعبية على مبارك، وإن لي عديد الأصدقاء من بين هؤلاء، ممن أبلى البلاء الحسن في معارضة النظام الاستبدادي في مصر وعمل بكل تضحية واجتهاد من أجل إنهائه وإقامة نظام بديل عنه، لكنني اعترف أنني لم أسأل أحدا منهم إلى الآن ما إذا كان نضالهم الديمقراطي الراهن هو بمثابة اعتراف ضمني بالأخطاء التي ارتكبها النظام الناصري خلال الخمسينيات والستينيات في حق الحريات والديمقراطية والتعددية الحزبية، أم أن الاعتراض على نظام مبارك هو فقط لأنه كان مواليا للغرب وإسرائيل والامبريالية؟
الطاغية صدام حسين ما يزال يحظى في تونس، كما في عدد من الدول العربية، بشعبية جارفة، في الأوساط الشعبية والنخبوية على حد سواء، ولربما يعود ذلك إلى اعتباره في نظر هؤلاء عدوا كبيرا للغرب والصهيونية وبطلا من أبطال الأمة العربية، ولا تلاحظ أي رغبة لدى هذه الأوساط في الوقوف عند جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها ضد أبناء شعبه، والتي حصدت أرواح مئات الآلاف، ولا المجازر ضد الإنسانية والمعتقلات الرهيبة التي ميزت عهده المرعب، ولا حروبه الظالمة ضد جيرانه العرب والمسلمين، ولا حتى نظامه الفردي الاستبدادي الفاسد الذي جعل منه إلها حقيقيا يعبد من دون الله وأصنامه مبثوثة في كل زاوية، فكل هذه الأمور تفاصيل بسيطة لا تستحق الاهتمام في مقابل عنترية الشعارات التي رفعها ونواياه القومية الحسنة و كتابته القرءان بدم نجس حرام.
ثمة تقدير لدي بأن حزبي البعث المعترف بهما في تونس، لا يختلفان في تصوير سيرة الرجلين quot;صدامquot; وquot;الأسدquot; عن هذا النحو، لكنني لست متأكدا ما إذا كان لقادتهما شجاعة الصدع بأن برنامجهما السياسي ومشروعهما بالنسبة للشعب التونسي، أن يقوما في حال وصولهما إلى الحكم بقطع العلاقات الديبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وسائر حليفاتها من دول الامبريالية الغربية، ثم القيام بإلحاق تونس بدول جبهة الصمود والممانعة، والاستعداد لإعلان الحرب على الكيان الصهيوني، بالنظر إلى وجوب ذلك على كل عربي وعربية، فضلا عن إلغاء النظام الديمقراطي التعددي لحاجة البلد ومعارك التحرر والمقاومة بطبيعة الحال إلى التفرغ لما هو أهم وأولى؟
لم أقرأ إلى حد الآن لبعثي تونسي ndash; ولعل ذلك تقصيرا مني- ما يؤكد تبني حزب البعث بشقيه العراقي والسوري، للمشروع الديمقراطي التعددي، وأحسب أن أدبيات الرفاق حتى سقوط صدام، وإلى يوم دمشق هذا، ما تزال متشبثة بنظام الحزب الواحد، أو نظام الجبهة الوطنية الذي يجعل من quot;الحزب الشيوعيquot; ملحقة داخلة في ملكية quot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot;، فهلا وضح البعثيون التونسيون كيف يمكن أن يكونوا أنصارا للديمقراطية في بلد وللديكتاتورية في بلد آخر؟.
على أية حال، فإن التاريخ سيذكر للرئيس بن علي أنه انحاز لنظام صدام عندما قام بغزو الكويت مما جعل نظامه لسنوات مصنفا ضمن دول الضد، كما عرف عنه تأثره بسيرة صدام والأسد في الحكم، وقد قلدهما ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مستوردا نظام الجبهة الوطنية من سوريا الأسد، وعددا من أساليب صدام في سياسة الرعية، لكنه بقي في رأيي تلميذا صغيرا جدا في مدرستهما الطغيانية، مرتدعا كما يعتقد بما وجده من تراث ليبرالي في حكم مؤسس الدولة التونسية المستقلة الزعيم الحبيب بورقيبة، فما الذي يريد أن يغيره البعثيون في تونس من سيرة الرجل يا ترى؟
كاتب تونسي
التعليقات