عندما قام السيد الباجي قايد السبسي رئيس الحكومة التونسية المؤقتة بتعنيف إحدى مذيعات القناة الوطنية التونسية لأنها برأيه قد تجاوزت حدود مهنتها، فإنه كان في واقع الأمر يكشف عن عقلية المسئول الرسمي السائدة، التيوإن أعلنت انتماءها للفكر الديمقراطيوصرحت بذلك لفظا في الخطبوالمؤتمرات الصحفية، لكنها تظل في عمقها تعتقد بأن الإعلام المملوك للدولة يجب أن يكون ناطقا باسم الحكومةوتوجهات النظام السياسي القائم،وليس باسم الشعبوالمجموعة الوطنية.
و يظهر أي طموح تونسي إلى بناء علاقة بين النظام السياسيوالصحافة المرئيةوالسمعية العمومية، شبيهة بتلك القائمة في بريطانيا مثلا بين الحكومة في 10 دوانغ ستريتومؤسسة quot;بي بي سيquot;، ضربا مضحكا من الخيال، فالأمر لا يتعلق بمجرد قوانين يمكن أن تراجعوتغير على نحو النموذج البريطاني، إنما بثقافة سقيمة تعشش في أوساط الساسةوالبيروقراطيينوأشباه الإعلاميين، ممن يملكون من مهارات التآمروالانقلابوالانحراف ما يجعل أي مراجعات أو تغييرات قانونية شكلية فاقدة لأي معنى عملي أو جدوى فعلية.
و لئن وجدت قنوات التلفزيون الوطني سندا قويا في مطالبة النقابة التونسية للصحفيين المتكررة لأجهزة الحكم الانتقالي باعتبارها مؤسسات إعلام عمومي، تعود ملكيتها إلى الشعب التونسيويفترض بها تمثيل مصالحه لا مصالح الحكومة، فإن قنوات التلفزيون الخاص، التي بقيت عدداوعدةوعناوين على حالها، منحصرة في قناتي quot;حنبعلquot;وquot;نسمةquot;، فإنها في رأيي ستظل مستعصية على أي تغيير مادامت نظره أصحابها إليها، هي نظرة أي شخص مالك إلى مزرعته الشخصية الخاصة، سواء تعلق الأمر بquot;باعث القناةquot; أو بquot;الابن البارquot; صاحب quot;الأب الحنونquot;.
و في الوقت الذي يمكن تبرير الجمود الذي ميز حالة الانتقال الديمقراطي على المستوى السياسي بضرورة الصبروالمصابرةوانتظار الموعد الانتخابي في 23 أكتوبر/تشرين الأول القادم، الذي يفترض أن يفرز قيادة ذات شرعية شعبيةوديمقراطية للبلاد، فإن لا شيء يمكن أن يبرر حالة الجمود التي سادت المشهد الإعلامي، بحيث بقي التونسي مجبرا على مشاهدة القنوات الممجوجة ذاتها، وسماع الإذاعات ذات الملكية المشبوهة نفسها،وصدى مديحها الزائفوتمجيدها الخرافي للرئيس السابقوالنظام النوفمبري، لم يغادر مخيلته أو يبتعد عن أذنيه بعد.
و إن الخوف على مشروع الانتقال الديمقراطي ليتعاظم، عندما يدرك المهموم بمستقبل بلاده، أن لأي عملية تحول نحو الديمقراطية وجهان أو متطلبان أساسيان لا مناص من تزامن تحققهما، أحدهما الظاهر البين الجلي المتمثل في تجديد النظام السياسي عبر عملية انتخابية ديمقراطية، شفافةونزيهة،وثانيهما الباطن مستتروغير تقليدي، المتمثل في إعادة بناء حالة الإعلام بهدف تحصين المجتمعوتمكينه من أخطر سلطةوأداة للرقابةوالنقدوالتوجيهوالاقتراحوإسقاط الحكوماتوإرهاب السلطاتوالحيلولة دون تغولها.
و من المفارقات المفزعة ممكنة الحدوث، أن أي تماطل في دمقرطة الإعلام إلى جانب دمقرطة السياسة، قد يزود ما يسمى بمراكزوأوكار الثورة المضادة بأهموأخطر أسلحتهمووسائلهم في إفراغ مضمون الثورةوعملية الانتقال الديمقراطي من محتواهما،وفي إعداد الرأي العام لأي مشروع انقضاض سياسي جديد، على نحو ربما يصبح معه أي حكم ديكتاتوري أو عسكري في مقام الضرورة الوطنية والحاجة الشعبية.
و لا شك أن الانقلاب المريع الذي لوحظ على محتوى برامج القناتين التونسيتين الخاصتين، سواء فيما يتصل بوقوفهما الدائم إلى جانب وجهات النظر الحكومية، أو محاولة بعضهما للترويج مجددا لنماذج تلميع شخصي ركيكةومناشدات سياسية بليدة شبيهة بتلك التي كانت سائدة في العقود الماضية، يؤكد استعداد القائمين على هذه المؤسسات الإعلامية، للتخلي عن المشروع الديمقراطي في أول اختبار حقيقي، ونفض التزاماتهم الثورية عند أول صفقة معروضة .
و لن يكون بالمقدور لوم quot;باعث القناةquot; أو quot;الابن البارquot; أو أيا ممن هم على نفس الشاكلة، لأن أحدا من بينهم لم يرتبط بهذا المشروع يوما، أو حتى كانت لديه القدرة على تصور مفهوم الإعلام الديمقراطي أو تخيل وظيفتهومسؤولياته،وكل ما أحدثته الثورة بالنسبة لهذا النوع من أصحاب القنواتوالإذاعات، أنها عوضت quot;بن عليquot; بquot;الشعبquot;وquot;تحول 7 نوفمبرquot; بquot;ثورة 14 ينايرquot;،ولو كانت عوضته بزيد أو عمر، لكان هذا الزيد أو العمر سيد الحكاموتاج الرأسوالأب الحنونوالنظام المثالي.
و على الرغم من كثرة عناوينه الجديدة بالنظر إلى رخص تكاليفه مقارنة بالإعلام السمعيوالبصري، فإن الإعلام التونسي المكتوب لم يختلف أمره، فرؤساء تحرير الصحف اليومية التي كانت تهللوتكبر للرئيس السابقوعنايته الموصولة ودفء شمسه الذي يبزغ على كل تونسي، لم يجدوا في مجملهم أي حرج في مواصلة الاضطلاع بمهامهم على رأس مؤسساتهم، التي تحولت وظيفتها إلى التلذذ بترديد كلمة quot;المخلوعquot;والشماتة في quot;الطرابلسيةquot;وبيان جرائمهم التي لا تعدولاتحصى،وليس من بينها بطبيعة الحال الإكراميات التي كانت تغدق على أصحاب القلم حماة ظهر النظام.
و يواجه مشروع دمقرطة الصحافة التونسية المكتوبة تحديات جمة لعل من أهمها غياب المستثمر الوطني الواعي بأهمية الإعلام الديمقراطي،وهيمنة لوبياتومافياتوبؤر تابعة للنظام السابق على قطاعات ذات صلة وثيقة بصناعة الصحافة الورقية من قبيل التوزيعوالطباعةوالإعلان،وضعف التأهيل على مستوى الموارد البشرية التي حرمت من تكوينوتعليم صحافة حرةوديمقراطية طيلة عقود، فضلا عن انتماء جل القيادات الصحفية ثقافةوعقليةوسلوكا إلى مدرسة quot;الديكتاتورquot;وتلوث الكثير منها بصفقات أو مؤامرات أو انحرافات العهد السابق،وعجزها المفترضوافتقادها لأي قدرة بالتالي عن قيادة مشاريع صحفية جديدة تستجيب لتطلعات ما بعد الثورةومسؤولياتها الجسام، باعتبارها كما قال أحدهم من quot;بقايا الحرب الباردةquot; أو quot;العهد البائدquot;.
و دون خضوع لأي منطق تشاؤمي، فإن المعركة التي تنتظر التونسيين في المجال السياسي، لا تقل خطورة أو مصيرية عن تلك التي تواجههم على الصعيد الإعلامي،وعلى الجيل الثوري الجديد في تونس أن لا يتخلى عن خوض معركته على الجبهتين،وأن يعمل على الاضطلاع بدوره بشجاعة على جبهات التغيير الديمقراطي المتعددة،وعلى رأسها الإعلاموالسياسة..من العيب على شباب تونس أن يسلموا مصيرهموثورتهم لديناصورات الحياة العامة، ممن لم يشبعوا بعد من لعق الدماءوإفراغ جيوب الفقراء، فمكان هؤلاء الطبيعي متحف الماضي لا مراكز القرار المستقبلي.
bull;كاتبوإعلامي تونسي