أذكر باستمرار تلك القصة التي حكاها المفكر الإيراني الكبير الشهيد الدكتور علي شريعتي في أحد كتبه، و التي لم أجد أفضل منها مثالا يوجز أزمة quot;اليسارquot; في العالم الإسلامي، فقد أورد رائد الفكر الإسلامي التقدمي حكاية المثقف الاشتراكي الذي ذهب إلى الريف مبشرا بثورة العمال و الفلاحين، فكاد يقتل على أيديهم و لم تمنع قتله إلا تدخلات أعوان السلطة، أولئك الذين جاء داعيا للثورة عليهم.
في مشهد أول بدا هذا الرجل الثوري مستغرقا في حديث جاد مع مجموعة المزارعين الفقراء، و في مشهد ثان بدا الرجل و كأنه يقود جماعتهم في مسيرة ثورية نحو مخفر الشرطة لافتكاكه من رجالها، أما المشهد الثالث فقد كان مخيبا للآمال الثورية فعلا، حيث اكتشف أن الرجل لم يكن قائدا لجماعة المعدمين الريفيين بل هاربا من غضبهم محتميا برجال البوليس في مخفرهم.
يروي شريعتي أن المثقف اليساري المبشر بالثورة، بدل أن يبدأ حديثه إلى بسطاء الناس في الريف من باب العدالة الاجتماعية و رفع الضيم الاقتصادي عنهم و تشجيعهم على التنظم و التعبئة و النضال دفاعا عن حقوقهم في الصحة و التعليم و الثروة الوطنية، فقد استهل خطابه بالهجوم على الدين و السخرية من المقدس و تتفيه الإيمان بالله و رسوله (ص)، و ما كان من مستمعيه إلا أن قرروا أن لا يمهلوه حتى ينتقل من باب إلى آخر، و ما كان منهم إلا أن غلقوا أمامه كافة الأبواب، و قالوا له quot;هيت لكquot; من رجل عديم المروءة جئت تدعونا جهارا للكفر بربنا و نبينا، و قد ظنناك داعيا للعدالة و التنمية.
و لما أتأمل في حال اليسار في بلادي التونسية اليوم، و في بلاد عربية و إسلامية كثيرة، لا أرى إلا هذا المثقف اليساري شقيق بطل قصة الدكتور شريعتي، مع تغيير في بعض ملامح الوجوه و تفاصيل الصور و الأماكن، فاليساري التونسي لم تعد له صلة واضحة بينة بالطبقات الكادحة و الفقيرة، و لم يعد مهموما بمهاجمة الطبقات الغنية، خصوصا طبقة محدثي النعمة التي سيطرت بالمكر و المكيدة و الفساد على الاقتصاد الوطني و تقاسمت مصادر الثروة الوطنية كأنها غنائم حرب، بل أضحت قضيته الأساسية الدفاع عن quot;العلمانويةquot; ( العلمانية المتطرفة) في مواجهة quot;الإسلامويةquot; و quot;الفرنكفونيةquot; في مواجهة العروبة و quot;الحداثويةquot; في مواجهة ما يصور على أنه مخططات ردة و انتكاسة ظلامية عن مكتسبات الحداثة.
و بدا لي من حيث التركيبة الاجتماعية لليسار التونسي خلال العقدين الأخيرين، و تحديدا فترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي و انهيار المنظومة الشرقية، أنه لم يعد يمثل جموع الفلاحين و العمال و عموم الفقراء و المعدمين في أرياف البلاد و أطراف المدن، بل أصبح يضم في غالبيته ما كان يطلق عليه سابقا quot;البورجوازية الصغيرةquot;، أي مجموعة المحامين و الأطباء و المهندسين و صغار رجال الأعمال و الفنانين و نشطاء المجتمع المدني و الموظفين الحكوميين، ممن تلقوا تعليما عصريا في الجامعات التونسية أو جامعات أجنبية، و شغلوا مناصب مميزة في أجهزة المجتمع أو الدولة، و تحولوا إلى فئة لا تحمل هموما اقتصادية و اجتماعية ثقيلة و مرهقة، بقدر ما تحمل هموما ثقافية و فكرية و سياسية متعالية.
و لعل واحدة من مصادر الضعف لدى اليسار التونسي ndash; و اليسار العربي عامة -، سمة التقليد تلك التي ربطته جذريا بمركزه السوفيتي سابقا، عندما كان يقال أنه كلما أمطرت في موسكو رفع اليساريون في العالم العربي مظلاتهم، و بمركزه الأوربي حاليا، حيث ما يزال اليساريون التونسيون و العرب يصرون على استلهام أولوياتهم من أولويات اليسار الأوربي، مبتعدين بوضوح عن القضايا العميقة لمجتمعاتهم، و متشبثين بمواقعهم النخبوية المتعالية عن هموم مواطنين، حيث لم توجد على أجنداتهم بعد إشكاليات الحداثة و ما بعدها، و لم يدر بخلدهم أن يتنكروا لهويتهم الحضارية العربية الإسلامية لمجرد رؤيتهم للغرب يتقدمهم تكنولوجيا و ماديا و من جهة رفاه مواطنيه الاقتصادي والاجتماعي.
و ثمة ضرورة اليوم، في تونس و في سائر العالم العربي الإسلامي، إلى إعادة طرح سؤال اليسار بطريقة صحيحة تتفق مع واقع المجتمع و ثوابته الثقافية و الحضارية، و تقديم إجابة عنه تشده إلى مطلب العدالة الاجتماعية، وتحرره من قبضة الاستلاب الثقافي التي كرسته في نظر الغالبية باعتبار quot;تسلية نخبويةquot;، و تعمل على تجذيره في سياق الفكر الإسلامي التنويري، و تبحث له عن سند في التاريخ الديني و الفقه الشرعي، تماما كما كان اليسار الغربي جزء لا يتجزأ من مسار التطور التاريخي للغرب و أحد أوجه الإبداع الفكري و الفلسفي الغربي.
و عندما يجري الحديث عن هوية حضارية إسلامية لمجتمعاتنا العربية و الإسلامية، تمكن quot;الإيمانquot; من مكانة علوية في مقابل quot;الإلحادquot; أو quot;الدهريةquot;، و تجعل quot;الروحانيةquot; مرجعية ثقافية بديلا عن quot;الماديةquot;، فإن حديثا آخر يجب أن تسيل مياهه في قنوات مجتمعاتنا المترددة، فحواه أن الإسلام لا يمكن تأويله تطبيقيا بالضرورة إلى quot;رأسماليةquot;، و أن التوجهات الاجتماعية و الاقتصادية كانت على مر تاريخ الإسلام أيضا صراعا بين من يرى الله نصيرا للفقراء، و الدولة وسيلة بيد المسلمين للتخفيف من الفوارق الطبقية و المظالم المادية، و من يعتقد بأن الله سلوى المحرومين يعوضهم حرمانهم في الجنة يوم القيامة، أو ينظر إلى الدولة مجرد quot;حارسquot; يتدخل استثناء لفض النزاعات زمن الفتنة.
لقد حان الوقت في رأيي، خصوصا أمام استفحال أزمة الرأسمالية العالمية، و اتساع رقعة الخلل الطبقي سواء على الصعيد الدولي ( بين الشمال و الجنوب) أو على الصعيد الداخلي لكل بلد على حدة ( بين الأغنياء و الفقراء)، إلى إعلان موت ذلك اليسار الذي ابتعد عن عمقه المطلبي في تحقيق العدالة الاجتماعية و طفق يخسف من ورق اليسار الأوربي لستر عوراته السوفيتية، و إعلان ولادة اليسار الذي أدرك أولوية الارتباط بقضايا الطبقات الاجتماعية المحرومة من جهة، و من جهة ثانية لا يجد غضاضة في التأصيل لنفسه إسلاميا على صعيد الهوية الحضارية لبلاده و شعبه، و آمن بأن صندوق الاقتراع و الآلية الديمقراطية أفضل و أسلم و أنظف في معالجة قضايا التفاوت الطبقي و الاعتماد على آلية الحوار السلمي المتمدن في مكان صراع الطبقات الذي طالما حولت تكريسه الاشتراكية الماركسية،.
bull; كاتب صحفي من تونس