مكنت انتخابات 23 اكتوبر 2011 الشعب التونسي مجددا من إحداث السبق عربيا، فبعد نجاحه في مفاجأة العالم يوم 14 جانفي / يناير 2011، بتفجيره أول ثورة شعبية سلمية ديمقراطية في المنطقة العربية، نجح هذا الشعب في ضرب مثال رائع لأول سباق انتخابي نظيف و نزيه و شفاف، على الرغم من كل الهنات التي يمكن أن تساق، من قبيل استعمال البعض للمال السياسي و اضطراب في وضع بعض الإجراءات الانتخابية، خصوصا تلك التي تعلقت بتمكين سكان الأرياف من ممارسة حقهم في التصويت في مراكز قريبة، أو السماح للأميين منهم باصطحاب مرافق إلى الخلوة الانتخابية.
كانت هذه الانتخابات حلما طالما راود خيالات النشطاء السياسيين و الحقوقيين التونسيين، في الوطن و المنافي على السواء، وبصرف النظر عن النتائج التي أسفرت عنها، و التي لا شك أنها أرضت أطرافا و أغضبت أخرى، كأي انتخابات حرة في العالم، إلا أن الثابت بخصوصها أنها فرحة عظمى غمرت التونسيين، و أنا واحد من بينهم، و مصدر فخر و بهجة، و خطوة في الاتجاه الصحيح لا بد من الاجتهاد لرفدها بخطوات أخرى تعزز مسارها، و تساعد تونس ndash; و العالم العربي من ورائها- على أن تجعل منها ديباجة لتاريخ جمهوريتها الثانية المتوقعة.
و قد سمحت لي هذه الانتخابات مشكورة لاستكمل مواطنتي المنقوصة، فقد قمت بالتصويت و الترشيح للمرة الأولى في حياتي، و قطعت خلال الحملة الانتخابية ما يزيد عن عشرة آلاف كيلومتر، التقيت خلالها آلاف المواطنين من أبناء دائرة صفاقس الأولى، و تعرفت عبرها على الكثير من أرياف بلادي المحرومة من التنمية، و مارست فيها الاتصال المباشر بالجماهير دون خوف من ملاحقة أو منع أو منفى أو معاقبة، و خلصت بعدها إلى المهمات الجسيمة و التحديات العظيمة التي ستواجه حكام تونس المقبلين خلال السنوات المقبلة.
و كنت آمل أن يمنحني الناخبون ثقتهم لأكون خادما لهم في المجلس التأسيسي، لكنهم قرروا غير ذلك و أنا احترم و انحني لإرادتهم بكل محبة و تقدير، متمنيا أن يكون من نال من زملائي الثقة في مستوى آمال و أحلام التونسيين، و سأعمل على مواصلة دوري في الرقابة و التوجيه و المساءلة من خارج المجلس، فمؤسسة الحكم في النظام الديمقراطي لا تقوم على وجود من يحكم فحسب، بل على وجود معارضة فاعلة داخل المجلس و خارجه، حتى لا يعتقد الفائزون أنهم نالوا صكا على بياض أو يظن الحكام الجدد أن التفويض لهم غير مشروط.
و قد انطوت نتائج الانتخابات على أكثر من رسالة لا بد من حسن فهمها و ترتيبها، وصلتني شخصيا من بينها الآتية:
-الحركة الإسلامية كانت الفائز المطلق في هذه الانتخابات، و قد عمدت إلى استعمال عبارة quot;الحركة الإسلاميةquot; من باب الإشارة إلى أن quot; النهضةquot; ليست إلا الرافد الرئيسي لهذه الحركة، فquot;العريضة الشعبيةquot; تماما كما quot;المؤتمر من أجل الجمهوريةquot; ليست في واقع الأمر إلا quot;انشقاقاquot; أو quot;مشروعاquot; متفرعا عن الحركة الأم، و إن اختلف سيناريو التأسيس من حالة إلى أخرى.
-المخاوف الشعبية حيال موضوع quot;الهوية العربية الإسلاميةquot;، هي مخاوف جدية لدى غالبية التونسيين، و قد ثبت إلى حد الآن أن الإصلاحات البورقيبية ذات النزعة التحديثية، سواء فيما يتصل بعلاقة الدين بالدولة أو بحقوق المرأة، لم تمتلك إلى اليوم سندا شعبيا عميقا، على غرار الإصلاحات الأتاتوركية التي أفرغ كثيرا منها أردوغان بقفازات مخملية ناعمة.
-quot;العريضة الشعبيةquot; بقيادة الدكتور محمد الهاشمي الحامدي، المهاجر إلى الآن في بريطانيا، شكلت أحد أبرز الفائزين المفاجئين، و أثبت خطابها أن مطالب المناطق الريفية و الجهات المهمشة في التشغيل و الصحة و التعليم، هي مطالب ذات أولوية لدى غالبية سكان هذه المناطق و الجهات، تستدعي تجاوز ما قد يعتقد البعض بأنه بمثابة quot;محرماتquot; ثورية، من قبيل الموقف الايجابي، جزئيا أو كليا، من سيرة الرئيس زين العابدين بن علي في الحكم.
-خطاب التيارات العقلانية و الحداثية و اليسارية ما يزال يفتقد في تونس، تماما كما هو الشأن في سائر البلاد العربية الإسلامية، العمق الشعبي الذي يمكن أن يجعلها قوة مضادة بمقدورها تحقيق التوازن المطلوب في النظام الديمقراطي، و هو ما يبرر خشية كثير من الديمقراطيين من قدرة المشروع الديمقراطي على الرسوخ في بيئة تفتقد إلى القدر المطلوب من التوازن بين اليسار و اليمين.
-شيوع ثقافة الحزب الواحد و رسوخها دفع الكثير من التونسيين إلى التصويت لحركة النهضة، التي عوضت أوتوماتيكيا في ذهنية البعض حزب التجمع الحاكم المنحل، فهؤلاء يخشون بشكل تلقائي من عدم وجود حزب كبير تظلل خيمته البلاد كما جرى طيلة العقود الخمسة الماضية.
-ثمة نزعة برغماتية فطرية لدى عدد كبير من التونسيين، جعلتهم يعتقدون أن التصويت لخاسر مفترض عملية غير مجدية، تماما مثلما جعلتهم يعتقدون أن التصويت للرابح المفترض أمر ضامن للمصالح الجارية على أيدي مؤسسات الدولة.
-حركة النهضة لم تظهر أية مخاوف محتملة من فوزها الكاسح و هيمنتها على المشهد السياسي التونسي، على سبيل الاستفادة الممكنة من تجربة انتخابات 1989، و لربما جاء ذلك تقديرا بينا من قيادتها بأن الزمن غير الزمن، وبأن زمن الإسلاميين قد أتى، فضلا عن إشارة البعض إلى أن الفوز الكاسح لعله السبيل الوحيد للحفاظ على وحدة الحركة، حيث سيسهل هذا الفوز مهمة القيادة الحالية في إقناع الغالبية لعدم إثارة ملفات الماضي، و الدفع بالموارد البشرية للانغماس في مهام الحكم و تحدياته الكبرى الملحة.
و لئن كانت هذه الرسائل ملغومة قابلة للتأويل و الاعتراض و الإلغاء، خصوصا و أنها رسائل غير مضمونة الوصول، فإن الرسالة الثابتة الباقية أن الشعب التونسي قد أحال الإسلاميين من خلال انتخابات 23 اكتوبر على أهم اختبار لحقيقة مشروعهم و قدراتهم و نواياهم، و ليس أفضل من ممارسة الحكم امتحانا..فهل سينجح الإسلاميون التونسيون فيما فشل فيه الكثير من الإسلاميين العرب، أم أن سيناريو أردوغان عربي قد يتبلور في تونس غير البعيدة عن المفاجآت؟

كاتب وإعلامي