كثيرا ما تغيب شخصيات العراق العلمانية عن مشهد انتهاكات الحقوق المدنية للمواطنين. مسرح حضورها الصراع على السلطة والمال والنفوذ. كلما برزت قضية صراع او مكاسب حضروا، ويخفت الصوت اذا ما حصل انتهاك لحرية او حقوق، الا في حدود الاستخدامات السياسية اللازمة.
رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي اكثر الشخصيات العلمانية حضورا، استقطب الكثير من الناخبين الباحثين عن خيار لا يستغل الاسلام في السياسة. لكن الحدث العراقي لم يعرف موقفا لافتا للرجل عندما يتم انتهاك حرية، او تلجأ السلطة الى سلوكيات مؤدلجة في التعامل مع الناس، فضلا عن الاولويات الاخرى للفرد.
صوت الزعيم quot;العلمانيquot; يعلو عندما تكون هناك مشكلة سياسية تخص كتلته، او قضية خارجية، او موضوع يتصل برفع quot;الحيفquot; عن البعثيين، غير معني كثيرا بغيرها، وربما لا يعرفها او يقول انه لا يعرفها. هو لا يهتم كثيرا بموقف القضاء الا في حدود ما يتصل بجماعته السياسية، ولا يهمه ان كانت وزارة التجارة وزعت الحصة التموينية على المواطنين، وليس معنيا بقرارات وزيرة المرأة التي تقيد لبس المرأة في دوائر الدولة والجامعات.
ما اهمية ان يرفع اي حزب او زعيم سياسي شعارات انتخابية علمانية وquot;برامجquot; اقتصادية واجتماعية، اذا لم يكن طول الطريق قادرا على الدفاع عن القضايا والتفصيلات المتصلة بشعاراته؟. نوري المالكي، اسامة النجيفي، عمار الحكيم... ايضا يدافعون في برامجهم الانتخابية عن quot;الدولة المدنيةquot;. المهم الموقف من تطبيقات هذه الدولة وشكلها وتفسيرها، وهذا الموقف لا يستكشف الا من خلال التفصيلات.
السلطة ليست السبيل الوحيد للدفاع عن مدنية الدولة، وحماية حق الفرد في تحقيق حريته. فمن لا يستطيع الدفاع عن قضايا الناس وهو في المعارضة لا يمكن الوثوق بتحقيقه لها وهو في السلطة، سواء كان الناس متدينين او غير متدينين، ابناء ريف او مدينة، عاطلين عن العمل او موظفين، متعلمين او اميين... والتفاعل مع قضايا هؤلاء ليس مجرد شعار عائم، التفاعل حضور تفصيلي.
واثبت العمل النيابي ان quot;سادة العلمانيةquot; في العراق قادرون على فعل الكثير، غير انهم لا يفعلون سوى القليل الا اذا اختصت الامور بطموحاتهم واصطفافاتهم السياسية ومحاورهم الاقليمية. لا تعنيهم قضايا التعليم، الصحة، او الحريات المدنية... وان تحدثوا عن حقوق الانسان فانهم يقصرون ذلك على الدفاع عن حقوق بعض المعتقلين، طبعا كل بحسب اتجاهه وتوجهه، فلا يتم الدفاع عن كل المعتقلين انما عن بعضهم.
تعالي بعض الزعماء السياسيين quot;العلمانيينquot; عن القضايا التي يرونها تفصيلية من اهم اسباب الغياب. هم رجال القضايا الكبرى، يتدخلون اذا ما تعلق الامر بشعارات عريضة او بقضايا الكسب الاساسية. quot;برستيجquot; بعضهم لا ينسجم مع انتقاده منع حفل موسيقي لاسباب دينية مثلا.
خضوع البعض للاصطفافات ومراعاته للتحالفات سبب اخر مهم. فاهم الرموز العلمانية متحالفة مع طائفيين او قوى دينية او ذهنيات عشائرية عروبية، ما يخضع اي سلوك لحسابات الربح والخسارة. فكيف يمكن لعلماني متحالف مع قوى محافظة او قبلية او دينية ان يدافع عن اصلاح قانوني اكثر انصافات للمرأة.
كما ان افراغ الخطاب العلماني من مضمونه الثقافي، واقتصار اصحابه على الصراع على السلطة، وافتقاره لخطاب واضح، وغيرها من العوامل ساهمت الى حد كبير في تحجيم اي دور للعلمانية في العراق مقابل شجاعة الخطاب السياسي الديني.
واذا اردنا الحديث عن الاحزاب فلا خيارات كثيرة امامنا، الحزب الشيوعي مثال ابرز ان لم يكن وحيدا. حزب شاخ، تاريخه محمل باخطاء كبرى، وحاضره ملبد بتساؤلات حول الجدوى. يطالب بالديمقراطية وهو الى الان عاجز عن تنفيذها داخليا. يقول انه حزب اصلاحي، ولم يستطع اصلاح شيء بما في ذلك صحيفته، التي تبدو وكأنها منشور حزبي اكثر من كونها صحيفة عصرية.
هذا العجز انعكس على العلمانية، ليبقى خطابها مبتسرا، مترددا، غير حريص، ومنشغلا بالمكاسب، ما افقده التواصل الاجتماعي الضروري. الكثير من الشرائح الاجتماعية المتدينة وفي نفس الوقت المؤمنة بدولة مدنية تخشى العلمانيين، لأنهم لم يطمئنوها بعدم العداء للدين. خصوصا وان تاريخ العراق الحديث يعاني ذاكرة مريرة من احزاب ما يزال البعض يصفها علمانية، فماذا فعلوا لتطمين تلك الذاكرة؟. هم بالفعل يفتقرون للقدرة على الاقناع.
ثمة شرائح شابة تنمو، تتساءل، بدأت تتحفظ امام استخدام المقدس خارج قداسته، تبحث عن مزيد من الحرية... هذا ليس بفضل quot;العلمانيةquot; العراقية، انما بفعل فشل الاخرين، والتواصل المفتوح الاخذ بالتأثير مع العالم الخارجي... لكن هذه الشرائح تائهة سياسيا، والموجودون اضعف من ان يستطيعوا تمثيل طموحاتها، وستتوه اكثر ان لم تجد انعكاس تطلعاتها داخل الحياة السياسية.
الزعامات، وايضا الاحزاب العلمانية quot;التاريخيةquot; وغير التاريخية باتت عقبة مهمة امام ظهور وجوه جديدة، اقرب لنبض الشارع، وابعد عن منابر المناكفة. الوجوه المعتادة تسرق الضوء والرعاية من اي بذرة بدائل، ما جعلها دائما خصما تقليديا يرتاح لوجوده الاسلاميون.
- آخر تحديث :
التعليقات