على هامش المتغير العربي الراهن تتصاعد نبرة العقيدة الجهادية.
ففي الوقت الذي تمثل لحظة quot;الربيعquot; العربي وانهيار الأنظمة التقليدية تطلعات الكثير من quot;الشرائح نحو حياة أفضل، فإنها كذلك تأذن بزوال الموانع أمام الجهاديين داخل أوطانهم. الكثير من التقارير تتحدث عن بؤر للجهاديين آخذة بالتشكل في أكثر بلدان الانتفاضات العربية.
الخلاص من النظام العربي القائم فرصة لبناء بلدان أكثر حرية، ولكنه أيضا يمثل فرصة للجهاديين في الانتشار والحضور وتشكيل وجوداتهم، الى جانب كونه فرصة للتيارات الدينية السياسية التقليدية المتمثلة بحركات الإسلام السياسي المعروفة. الصراع بين أصحاب الفرص سيكون عنوان مرحلة ما بعد الإيقاع الحالي، مثلما كان الأمر بالتحديد بعد سقوط نظام البعث في العراق.
بالعادة تقوم القاعدة بنشر نموذجها وعقيدتها الجهادية عبر تنظيماتها. في العراق كوّن هذا التنظيم قواعد وحواضن تتبنى تفسيره للجهاد، وبث عقيدته الجهادية في صفوف الكثير من الشباب. هو مثلا دخل العراق بمقاتلين ودعاة عرب، لكنه بعد فترة وظف وجند أعضاء عراقيين بث فيهم خطابه الخاص وشكل بهم جناحه المحلي والمسمى quot;دولة العراق الإسلاميةquot;، ومن ثم اصبح الجيل الثالث من القاعدة في العراق ذا أغلبية محلية.
على عكس ذلك المعتاد، فإن العقيدة الجهادية حاليا تحضر في أكثر من بلد عربي بدون الحاجة للقاعدة. اليوم يخضع الكثير من الشباب لذهنية جهادية شديدة التطرف والكراهية، بفعل تثقيف غير محدود قام به لسنوات الإعلام الديني وبعض المحافل المتطرفة في المساجد والأحياء الشعبية.
غير أن هناك من يصر على الحديث عن تلك العقيدة وكأنها بنت اللحظة الراهنة، يتعامل معها باعتبارها طارئا جاءت به ظروف الحراك الأخير وحجم الدم المسفوح. حيث يحيل البعض سبب انتشار الجهادية إلى عدمية تفرضها المواجهة مع الأنظمة وحجم العنف السائد. اعتقد أن هذا الرأي مجرد محاولة لتبرئة روح القتل الساكنة في هذه العقيدة وحاملها. فهو يتناسى أنها تبلورت وتشكلت وتطورت بفعل ثقافي اقدم، وليس فقط لأسباب ظرفية، وان لهذه العقيدة ضحايا قبل لحظة الربيع العربي.
اللحظة الراهنة هي الفرصة وليس الولادة، فرصة مضي الجهادية المنظمة وغير المنظمة لأن تنتشر بشكل أوسع، ويساعدها في ذلك إعلام موجه، وكراهية تنبش، ومال وافر يصرف، وخطاب غيبي يذكر باللحظة المحمدية، وشعور غير مسبوق بالانتماء الديني، وصراع اقليمي باحث عن جنود، وانظمة دكتاتورية تتهاوى لينكشف المستور.
متوقع بعد انتهاء الفورة ستعود نسب كبيرة ممن اخذتهم الفورة عنها، ويرجعوا الى افكار اكثر اعتدالا واقل تشددا واشد التصاقا بالحاضر وليس الماضي. وفي المقابل من الطبيعي ان تتصاعد نبرة التشدد لدى شرائح اخرى، تكوّن لنفسها وجودا يستند للتطرف والجهادية عقائديا، وتبني خطابها على أساس قناعاتها المتجذرة بضرورة عودة ما يعرف بـquot;دولة المدينةquot; عبر فهم حربي للنص الإسلامي المؤسس.
التشدد يستفحل في ظل نزعات نفسية واجتماعية دموية، عنيفة، متسلطة، تتوالد داخل هذه الجماعات البشرية التي قد لا تكون متدينة، لكنها مؤهلة لأن يتملكها الشعور الديني المتطرف ويوظفها، كما تملكتها في السابق عقائد دموية وعنصرية اخرى. المجتمعات التي أرسلت الجهاديين إلى العراق ومن قبله إلى أفغانستان في حربها السوفيتية، هي نفسها التي تولد الجهاديين الحاليين ليصبحوا جنود quot;العقيدةquot;.
العقيدة الجهادية غير المنظمة تدرك جيدا انها ليست محلية، بل هي مشروع عالمي. كثير من الشباب يتعامل مع الجهاد ليس باعتباره مشروعا محليا انما هو محاولة لنشر نموذجه الاسلامي عبر العالم، هو شباب طامح جدا، واسع الخيال الغيبي، محمول برومانسية ثورية تتزامن مع ثوريته ضد انظمته الحاكمة.
وهذا يتماهى مع توجه الجهادية المنظمة الباحث عن نشر quot;الدعوةquot; والباحث عن اهداف ابعد من الحدود الوطنية لهذا البلد أو ذاك. ورغم أن مركزية التنظيمات الجهادية تراجعت بالقياس إلى ما كانت عليه في هجمات أيلول الدامي عام 2001، إلا أن كل القوى المحلية بقيت مرتبطة بخطاب تجمع بينه أهداف موحدة ومرجعيات مشتركة. لذلك نجد أن الجهاديين العرب وغير العرب يتنقلون إلى البلدان التي يمكن أن تشكل بؤرة للمواجهة.
وثمة بلدان ومؤسسات ورؤوس أموال تغذي استمرارية هذه الجهادية. بعضها تنطلق من خلفيات دعوية دينية، وبعضها الآخر يقدم الدعم للاستفادة منها كجزء من إستراتيجية الصراع الدولي والإقليمي الدائر. هذا إضافة إلى ما تؤشره بعض التقارير حول امتلاك الجهاديين لمشاريع استثمارية او اخرى للاتبزاز والنصب تستخدم في التمويل.
والعقل الجهادي ما يزال يستكشف أساليبه، تمظهراته، ويطور من خطابه، ويغير شكل تحالفاته، ليس لأنه يتغير بل لأنه يدرك اهمية التلون في الطريق نحو هدفه: تطبيق الشريعة وفق الصيغة الأكثر تشددا. إن هذه العقلية في العراق لم تتردد باستهداف المدنين بالتفخيخ والقتل، وقد تحتاج يوما أن تغير هذه الطريقة في مكان آخر لتتبنى الانتخابات.. إنها قاتلت تحت شعار إخراج الأمريكيين من العراق، وقد تتوافق معهم في مكان آخر لتصل إلى مبتغاها.
هناك من يتعامل مع الجهاد كغاية، اولئك مغفلو الجهاديين، غير ان عموم العقيدة الجهادية اخذة بالاتساع ليس كغاية بل كوسيلة، انها تريد ما هو ابعد من من quot;الاستشهادquot;، والجنة وسيلة إقناع، لكنها ليست الهدف الدنيوي، انما هدفها حياة خاضعة لشروطها.
لا يستهان بهذه العقيدة ولا بحامليها، ويخطيء من يظن انها طارئة، مادام المجتمع مجذوب لنفس البيئة الحضارية التي تعتاش عليها.
التعليقات