للمرة الثانية علي التوالي يصب الرئيس المخلوع حسني مبارك جام غضبه علي الولايات المتحدة، المرة الأولي كانت في المركز الطبي العالمي بعد أن تأكد من إدانته (سياسيا) قبل صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد بأيام، أما المرة الثانية فقد كانت عقب سماعه داخل محبسه نبأ وفاة اللواء عمر سليمان مدير الاستخبارات ونائبه السابق.
رحيل سليمان أحد أهم رجال الاستخبارات الأمريكية في الشرق الأوسط (غير مقنع) للكثيرين، ولذلك ستظل الشائعات تملأ الأرض والسماء، وهذا مطلوب. بعض وجوه الحقيقة يمكن أن تكتشف قريبا ولكن بالتأكيد لن تعرف الحقيقة كاملة، على الأقل في زمننا هذا.
وليست مصادفة أن يتساقط أربعة من رجال الاستخبارات في البلدان الرئيسية في الشرق الأوسط مثل أحجار الدومينو الواحد تلو الآخر وفي نفس التوقيت تقريبا، ويقال الخامس في أقوي دولة عربية في المنطقة ويعين خلفا له علي الفور. فقد تزامن الإعلان عن وفاة اللواء quot; عمر سليمان quot; في مستشفي quot; كليفلاند quot; بالولايات المتحدة، مع مقتل رئيس المخابرات السوري quot; هشام بختيار quot; في تفجير بالعاصمة دمشق، ومقتل quot;بن عويز شاميرquot; مدير العمليات الخارجية فى الشاباك (جهاز الأمن الداخلي في إسرائيل) في ظروف غامضة بالعاصمة النمساوية فيينا، وإغتيال quot;هاكان فيدانquot; مساعد رئيس الاستخبارات التركية في منزله من قبل مجهولين في quot;إسطنبولquot;، أما في المملكة العربية السعودية فقد تم إعفاء الأمير quot; مقرن بن عبد العزيز quot; من منصبه كرئيس لجهاز الاستخبارات وتعيين الأمير بندر بن سلطان رئيسا.
تغيير طاقم الاستخبارات (القديم) في المنطقة ليس موضوعنا في هذا المقال، وإنما quot; غضب مبارك العارم quot; وإلقاء اللوم علي الولايات المتحدة في كل ما حدث ويحدث بدءا من يناير عام 2011. ولا أبالغ إذا قلت أن مبارك لم يستوعب الدرس بعد وربما لن يستوعبه، فقد أضاع مصر وربما المنطقة بأكملها، وأضر بغباء منقطع النظير بمصالح البلاد والعباد والأصدقاء والأعداء علي السواء، فضلا عن إطاحته بالقوي الليبرالية واليسارية والقومية والأقليات الدينية والإثنية، وأصبح هو نفسه quot; حالة معقدة quot; تستحق الدراسة، إذ كيف تفنن في إهدار كل فرص التنمية والسلام والتقدم والتغيير الديمقراطي في مصر والشرق الأوسط؟
العلاقة بين مبارك والولايات المتحدة لم تكن أبدا علي مايرام، وبلغت ذروة الأزمة بينهما عام 2000 عقب انهيار عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، في نهاية عهد الرئيس quot; بيل كلينتون quot;، والتي ازدادت سوءا علي مدي ثماني سنوات تالية، في عهد الرئيس بوش الابن quot; 2000 ndash; 2008 quot;. خيبة الأمل في الأوساط الأمريكية تعود، حسب quot; ميشيل دان quot; الباحث البارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إلي تحميل مبارك فشل إقناع الفلسطينيين بالتوقيع علي اتفاقية quot; كامب ديفيد quot; بين الطرفين في خريف عام 2000 فضلا عن السلام البارد بين مصر وإسرائيل بعد ثلاثين عاما منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 رغم المساعدات العسكرية والاقتصادية (بالمليارات)، ناهيك أن عددا من المخططين والمنفذين للهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 كانوا من المصريين (والسعوديين)، مما يدل علي تنامي الاتجاهات السلبية في مصر ضد مصالح الولايات المتحدة.
كما عارض مبارك بشدة الرئيس بوش في احتلال العراق لمحاربة الإرهاب، رغم أنه وحسب بوش في مذكراته التي عنونها بquot; نقاط القرار quot; هو الذي أكد للإدارة الأمريكية هواجسها بشأن امتلاك صدام لأسلحة الدمار الشامل، يقول بوش : quot; الرئيس المصري حسني مبارك أطلع الجنرال تومي فرانكس على أن العراق لديه أسلحة بيولوجية وأنه سيقوم باستخدامها ضد قواتنا بكل تأكيد quot;. الأهم من ذلك هو أن مبارك رفض دعوة بوش لقيادة مصر والمنطقة نحو إقامة ديمقراطية ليبرالية دستورية، حيث شددت quot; كوندوليزا رايس quot; وزيرة الخارجية الأمريكية في يونيو عام 2005 علي هذا المطلب الملح. هكذا ربطت الولايات المتحدة مصير إدارتها للعالم وتغييرهrlm; ، بإنجاح عملية التحول الديمقراطي في المنطقة بمساعدة أصدقائها، وبالمقابل فإنها ستخسر دورها وستتعرض مصالحها للخطرrlm;، إذا فشلت في تحقيق ذلك.
أما رد فعل مبارك وبطانته ومنهم رجل الاستخبارات القوي وقتئذ عمر سليمان، فهو : quot; تنفيذ رغبة أمريكا في عكس الاتجاه الذي تريده quot; لأنها بمحاولاتها نشر أفكار الديمقراطية تضعف سلطة المستبدين من أصدقائهاrlm;، وتقوي ساعد المعارضة الإسلامية للإخوان المسلمين وهو ما حدث بالفعل مع وصول حماس إلي السلطة في غزة، ونجاح 88 عضوا من جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية عام 2005 في مصر.
quot; الفخ الأمريكي quot; يمكن أن نطلق عليه (فخ quot; أوباما ndash; كلينتون quot;) .. ففي خطاب الرئيس أوباما quot; الأول والثاني quot; أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال : quot; إننا لا ننوي تصدير ديمقراطيتنا quot;، وفي فبراير 2009 أي بعد أسبوعين فقط من تسلم أوباما مقاليد السلطة، جمع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون ووزير الخارجية المصري أحمد أبوالغيط لقاء مهما، لم يتطرق من قريب أو بعيد للسياسة الداخلية المصرية وهو ما أثار دهشة المراقبين وصدرت بعض الصحف والمجلات المصرية تحت هذا العنوان : quot; عندما ترفع الديمقراطية الأمريكية الراية البيضاء quot;. بل إن أوباما قد زار مصر وأعلن في يونيو من نفس العام وتحت قبة جامعة القاهرة quot; المصالحة مع العالم الإسلامي quot; وبداية عهد جديد مع المنطقة.
وسوف أترك لك عزيزي القارئ استكمال بقية القصة، مع الأخذ في الاعتبار أنه بعد ان أطمئن مبارك ورجاله تماما لأوباما ndash; كلينتون، لم ينجح أي عضو من جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب أكتوبر عام 2010، الذين شكلوا أغلبية في مجلس الشعب (المنحل) فيما بعد 25 يناير 2011، ومنهم جاء الرئيس الإخواني quot; محمد مرسي quot; عام 2012 كأول رئيس لمصر (غير عسكري) بعد ستين عاما من ثورة يوليو 1952 وعام ونصف العام من خلع مبارك (الغاضب الآن بشدة)!
[email protected]